Al Araby Al Jadeed

استهبال الذات واآلخر

- أرنست خوري

منذ حولت حرب 1967 العالقات األميركية ــ اإلسرائيلي­ة إلى تحالف مطلق في عهد الرئيس ليندون جونسون، بعدما كان يشوبها التنافر وتضارب املصالح خالل عهدي هاري ترومان ودوايت أيزنهاور، لم يسبق أن وصلت ملا بلغته اليوم من وضع غير منطقي يهدد املصالح األميركية. والحال أن الخلل في هذه العالقات صار، أكثر من أي وقت مضى، عامال مزعزعًا الستقرار داخل الواليات املتحدة نفسها فـي عـالقـات األميركيني السياسية أفــــرادًا وأحــزابــًا. تحضر مالحظات سريعة عن تهديد هـذا النسق من الدلع الــذي أرســاه جو بايدن منذ السابع من أكتوبر/ تشرين األول 2023 ملصالح أميركا: قبل 30 و13 يوليو/ تموز املاضي، كانت إدارة بايدن تريد إنهاء الحرب اإلسرائيلي­ة على غـزة أمـال بكسب أصوات شـديـدة األهمية ملناهضي الــعــدوا­ن مـن األميركيني فـي الــواليــ­ات املتأرجحة يوم االنتخابات، الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، كـان بايدن سيخسرها على األرجــــح لــو بـقـي مـرشـحـًا لـلـرئـاسـ­ة. حـلـت كــامــاال هــاريــس مـكـانـه وبـــدت مـواقـف مـنـاهـضـي الـــحـــر­ب أقــــل سـلـبـيـة تــجــاهــ­هــا، فــجــاء االغــتــي­ــال املـــــزد­وج لـــفـــؤا­د شكر وإسماعيل هنية بمثابة نقل للهم األميركي من املستوى املحلي الخاص بحسابات االنتخابات إلى طابق أعلى، ذلك أن االغتيالني، في االعتبارات األميركية، يهددان باندالع حرب إقليمية سترفع أسعار النفط إلى 200 دوالر للبرميل، وهذا ليس أقل من كارثة لالقتصاد األميركي تتحمل مسؤوليته، في حسابات االنتخابات، اإلدارة الديمقراطي­ة الحالية، ومن أركانها املرشحة كاماال هاريس. حرب إقليمية ستكلف أميركا مليارات الــدوالرا­ت، وستفاقم كره أميركا في املنطقة في مقابل توسيع نفوذ روسيا والصني وشعبيتهما، وقد تطيح في طريقها أنظمة عربية حليفة ألميركا، وقد تصيب بمقتل ذلك الحلم األميركي بإنشاء تحالف إسرائيلي ــ عربي تقوده السعودية، يطفئ أزمات الشرق األوسط لكي تتفرغ اإلدارة األميركية للصني في شرق آسيا وجنوبها. في الحساب األميركي االستراتيج­ي، التحالف العربي (السعودي خصوصًا) ــ اإلسرائيلي ال إقامة دولــة فلسطينية حقيقية هو الكفيل بإحالل سـالم الشرق األوســط. من هنا يبدأ الشك في قـدرة صناع القرار األميركيني على التمييز بني الرغبة والواقع، وبني الحقيقة والوهم. هنا أيضًا يبدأ تسلل قناعة تفيد بأن خلال فادحًا في املنطق السياسي يسير الـقـرارات األميركية الخاصة بإسرائيل على األقل منذ السابع من أكتوبر، األدهى فيه أنه يعمل ضد املصالح األميركية. وبقليل من مسايرة النظريات املؤامراتي­ة، القتنع أحدهم بأن عميال إسرائيليًا خرق اإلدارة األميركية ويقف خلف هذا العمى األميركي. غـداة اغتيال شكر وهنية، اتصل بايدن ببنيامني نتنياهو ودارت مناقشة يقول اإلعـــالم األمـيـركـ­ي إنها كانت كـالـعـادة صاخبة وغاضبة مـن الرئيس األميركي خصوصًا، إلى أن وصل األمر به إلى مطالبة نتنياهو بـ«التوقف عن استهباله». ومصطلح االستهبال هنا هو أقصى ما يمكن االحتيال من خالله باللغة العربية ملحاولة توضيح ما قصده بايدن بعبارة ‪،stop bulshittin­g me‬ وهي تعني أكثر بكثير من االستهبال، إلى درجـة يصعب أن ينشر املعنى الحرفي في صحيفة «رصينة». بايدن يطالب نتنياهو بالتوقف عن استهباله بينما هو يستهبل نفسه عندما يدعم حرب اإلبادة بشكل مطلق بما يهدد مصالح أميركا نفسها. يستهبل نفسه عندما يقول إنه يريد أن يضغط على تل أبيب لتوقف حربها، ويرسل في اآلن نفسه كل الترسانة الحربية األميركية إلى الشرق األوسط لتحميها. يستهبل نفسه عندما يجهل حقيقة أن تزويد إسرائيل قبل أيام بأسلحة قيمتها 20 مليار دوالر، دعوة صريحة إلى مزيد من الحروب اإلسرائيلي­ة. يستهبل نفسه عندما يرفض فرض عقوبات جدية على املستوطنني ووزرائهم وعلى فرقهم العسكرية داخل الجيش اإلسرائيلي. يستهبل نفسه عندما ال يدرك، بكل تجربته وخبرته واملعلومات التي في حوزته، أن فرض أميركا إقامة الدولة الفلسطينية الحقيقية، وتحويل إسرائيل إلى دولة عادية، ال دولة استثناء، هو الوحيد الذي ربما، وفقط ربما، يحمي املصالح األميركية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar