ال رابحين من تعطل إمدادات الطاقة
هجوم كورسك يهدد ترانزيت الغاز الروسي إلى أوروبا
ال رابحين من تعطل إمدادات الغاز الروسي ألوروبا على خلفية المخاطر الحالية، وفي الوقت الذي دفع فيه هجوم القوات األوكرانية على مقاطعة كورسك منذ 6 أغسطس/آب، بأسعار الغاز في السوق األوروبية صوب عتبة الـ005 دوالر، سرعان ما عادت إلى 480 دوالرًا
مــــــع اقـــــــتـــــــراب الــــــحــــــرب الــــروســــيــــة األوكــــرانــــيــــة املــفــتــوحــة مـــن إكــمــال عامني ونصف العام، تواجه سوق الطاقة األوروبية آفاقًا غامضة، وسط اندالع املـــعـــارك فـــي مـحـيـط مـحـطـة قــيــاس الـــغـــاز في مدينة سودجا الواقعة في مقاطعة كورسك والـــتـــي تــســتــخــدم لــتــرانــزيــت الـــغـــاز الـــروســـي إلـــى أوروبـــــا عـبـر األراضـــــي األوكـــرانـــيـــة. وفـي الوقت الــذي دفـع فيه هجوم الـقـوات املسلحة األوكــرانــيــة عـلـى مقاطعة كــورســك واملستمر منذ 6 أغـسـطـس/آب الــجــاري، بـأسـعـار الغاز في السوق األوروبية صوب عتبة الـ005 دوالر لكل ألف متر مكعب، سرعان ما عادت إلى ما بــني 450 480و دوالرًا، إذ إن اسـتـمـرار تدفق الـغـاز رغــم االشتباكات طمأن األســـواق. ومع ذلك، ال يزال هذا الرقم أعلى كثيرًا من معدالت
يـــولـــيـــو/تـــمـــوز املــــاضــــي الـــتـــي تــــراوحــــت بـني 400 - 420 دوالرًا، وســط مـخـاوف مـن توقف اإلمــــــــدادات فـــي أي لــحــظــة. وتـــعـــود تــذبــذبــات أسعار الغاز إلـى املـخـاوف من إلحاق أضـرار بمعدات محطة سودجا، مما سيجعل قياس كميات الغاز أمــرًا مستحيال، وقـد يــؤدي إلى توقف الترانزيت. أما املسار البديل لنقل الغاز عبر محطة سوخرانوفكا الواقعة في مقاطعة لوغانسك األوكـرانـيـة والـتـي ضمتها روسيا تحت مسمى «جمهورية لوغانسك الشعبية»، فقد توقفت كييف عن استخدامها منذ مايو/ أيـــار 2022 بذريعة نـشـوب ظـــروف قهرية من جهة فقدان أوكرانيا السيطرة على األراضـي الكائنة فيها املحطة. ومنذ ذلك الحني، واصل عمالق الـغـاز الـروسـي «غــازبــروم» ضـخ نحو 40 مـلـيـون مـتـر مكعب مــن الــغــاز يـومـيـًا عبر «ســـودجـــا»، مـمـا يـغـطـي احــتــيــاجــات النمسا وسلوفاكيا وجزئيًا املجر وإيطاليا.
النمسا في طليعة المتضررين
في حال تعطل اإلمدادات على خلفية املخاطر الحالية، ستكون النمسا هـي الـدولـة األكثر تــضــررًا كـونـهـا ال تـــزال تتلقى الـقـسـم األكـبـر مـن الـغـاز الــروســي عبر األنــبــوب األوكــرانــي. وعــلــى الـــرغـــم مـــن الــتــراجــع الـــحـــاد إلمـــــدادات الغاز من روسيا إلى أوروبـا منذ عام ،2022 إال أن «غـــــازبـــــروم» وفـــــرت لـفـيـيـنـا %64 من حاجيتها من الغاز في عام .2023 وفي أشهر الشتاء املـاضـي، فاقت نسبة هـذه اإلمـــدادات الــــــ09%، مسجلة رقــمــا قياسية بــواقــع %98 فـي ديسمبر/كانون األول املـاضـي. وفــي 13 أغـــســـطـــس/آب الـــجـــاري، دقـــت وزارة الـطـاقـة الـنـمـسـاويـة نــاقــوس الــخــطــر، معلنة وجــود خطر كبير للتوقف املفاجئ إلمـــدادات الغاز الروسي الذي يتيح تشغيل املصانع الثقيلة املــوجــهــة إلــــى الــتــصــديــر. ورغــــم أن االتــحــاد األوروبــي فرض في نهاية عام 2022 وبداية عام 2023 حظرًا على استيراد النفط الروسي ومـــنـــتـــجـــاتـــه، لــــم تـــمـــس الــــقــــيــــود بـــــإمـــــدادات الــغــازيــن، املـــورد عبر األنـابـيـب واملــســال، من دون أن يــحــفــظ ذلـــــك الــــقــــيــــادة الــنــمــســاويــة الـحـالـيـة الــتــي تــواصــل شــــراء كـمـيـات هائلة مـــن الـــغـــاز الـــروســـي، مـــن الــتــعــرض لضغوط بــروكــســل. ويـلـفـت الخبير فــي املـعـهـد املـالـي الـــتـــابـــع لـلـحـكـومـة الـــروســـيـــة، سـتـانـيـسـالف ميتراخوفيتش، إلـى أن النمسا ستكون في طليعة املتضررين جراء تعطل إمدادات الغاز عــبــر «ســــودجــــا»، مـتـوقـعـًا فـــي الـــوقـــت نفسه استمرارها نظرًا إلــى مـا يــدر على أوكرانيا من عوائد. ويقول ميتراخوفيتش لـ«العربي الجديد»: «في أشهر الشتاء، تحصل النمسا على ما يصل إلى %90 من حاجيتها من الغاز عــبــر ســـودجـــا، ووضـــــع ســلــوفــاكــيــا وبـصـفـة خاصة املجر أفضل بعض الشيء كـون هذه األخـيـرة تحصل على الحصة الرئيسية من اإلمدادات عبر خطر السيل التركي». ويتوقع الخبير فـي املعهد املـالـي استمرارًا لترانزيت الـغـاز الـروسـي عبر أوكـرانـيـا رغم التصعيد األخــيــر، مضيفًا: «كـيـيـف نفسها مـعـنـيـة بــمــواصــلــة جــنــي عـــوائـــد الــتــرانــزيــت
وتلبية احتياجاتها هـي مـن الـغـاز، وأعتقد أنـــــه ســيــتــم االســــتــــمــــرار فــــي الـــعـــمـــل بـالـعـقـد حتى بعد انتهاء مدته، إذ إني ال أتصور أن تستغني أوكرانيا طوعًا عن ترانزيت الغاز». ويلفت إلى أن أوكرانيا نفسها لم تستغن عن الغاز الروسي استغناء كامال حتى اآلن، بل تواصل شراء ه بصورة غير مباشرة بالسوق الثانوية من الدول األوروبية، ثم تسلمه من خـــط الــتــرانــزيــت أثـــنـــاء عـــبـــوره. ويـــجـــزم بــأن طرفي الـنـزاع الـروسـي األوكــرانــي سيعمالن عـــلـــى تـــجـــنـــب إلـــــحـــــاق أي أضـــــــــرار بــمــحــطــة ســــودجــــا، مـــن دون أن يـسـتـبـعـد فـــي الــوقــت نفسه احتمال تعرضها لإلصابة بقذيفة عن طــريــق خــطــأ، مـشـيـرًا إلـــى أنـــه حـتـى فــي هـذه الـحـالـة يمكن مـواصـلـة ضـخ الـغـاز بواسطة الضواغط الكائنة بمواقع أخرى. ويـــتـــوقـــع نـــائـــب مـــديـــر صـــنـــدوق أمــــن الــطــاقــة الوطني في موسكو، أليكسي غريفاتش، هو اآلخر استمرارًا لترانزيت الغاز الروسي عبر أوكــرانــيــا حتى بعد انـتـهـاء العقد املــبــرم بني عــمــالق الـنـفـط الـــروســـي «غــــازبــــروم» وشـركـة «نفتوغاز» األوكرانية في نهاية العام. ويقول غـريـفـاتـش لـــ«الــعــربــي الــجــديــد»: «حــتــى اآلن، ال تــحــمــل األحــــــداث الـــراهـــنـــة فـــي طــيــاتــهــا أي
تداعيات خطيرة لألسواق باستثناء ارتفاع األســـــعـــــار، إذ إن تــــرانــــزيــــت الــــغــــاز يــتــواصــل بــالــكــمــيــات املـــعـــتـــادة، وهــــو مـــا يـــبـــدو نتيجة لــجــهــود دبــلــومــاســيــة تـبـذلـهـا الـــــدول املعنية باستمرار إمـدادات الغاز الروسي رغم أعمال الـقـتـال فـي محيط املحطة وأوكــرانــيــا عـامـة». ويــجــزم بـأنـه لــن يـكـون هـنـاك طـــرف رابـــح من تعطل إمدادات الغاز في حال حدوثه، مضيفا: «حتى اآلن، لـم تتوصل األطـــراف املعنية إلى إجــــمــــاع بـــشـــأن كــيــفــيــة اســـتـــمـــرار الـــتـــرانـــزيـــت بعد انتهاء العقد، ولكنها تــدرك أن الجميع ســيــتــكــبــد خـــســـائـــر فــــي حـــــال تـــوقـــفـــه، ولـــذلـــك يتواصل الترانزيت رغم التصعيد العسكري واملخاوف من وقوع قصف وحتى من استياء التشكيات األوكرانية على محطة سودجا.
ورقة أوكرانية لمساومة أوروبا
يـــرى الـبـاحـث األكــاديــمــي األوكـــرانـــي، إيـغـور ســيــمــيــفــولــوس، أن أوكــــرانــــيــــا قــــد تـسـتـثـمـر ورقة ترانزيت الغاز الروسي ملساومة الدول األوروبـــــيـــــة املــتــعــاطــفــة مــــع مـــوســـكـــو، قـــائـــا لـــ«الــعــربــي الــجــديــد» مــن كـيـيـف: «مـــن املبكر الحديث عـن مصير عقد تـرانـزيـت الــغــاز، إذ إن تــغــيــيــرات كــثــيــرة قـــد تــطــرأ عــلــى الــوضــع قــبــل نــهــايــة الــــعــــام، ولـــكـــن األمـــــر قـــد يصبح ورقــة للمساومة مع أوروبـــا وبصفة خاصة دولـــهـــا املــتــعــاطــفــة مـــع بــــوتــــن»، فـــي إشــــارة إلـــى الـنـمـسـا واملـــجـــر. ومــنــذ بـــدء الــحــرب في أوكرانيا، غردت بودابست تحت قيادة رئيس الـــــوزراء، فيكتور أوربــــان، املــعــروف بعاقته الـــوطـــيـــدة مـــع الــرئــيــس الــــروســــي، فـاديـمـيـر بـــوتـــن، خـــــارج ســــرب الــــــدول األوروبــــيــــة في مسألة دعم أوكرانيا، من جهة عرقلة وصول الدعم العسكري الغربي إلـى كييف أوال، ثم مـنـع تـمـريـر الـحـظـر األوروبــــــي الــكــامــل على الـنـفـط الـــروســـي وإصــــرارهــــا عـلـى اسـتـبـعـاد نفط األنابيب منه. أمـا النمسا، فإلى جانب استمرارها في االعتماد على الغاز الروسي، يـــواصـــل مــصــرفــهــا «رايــــفــــايــــزن» الــعــمــل في الـسـوق الـروسـيـة، رغــم اضــطــراره إلــى تقييد املعامات وتحويات األفـــراد تحت ضغوط من البنك املركزي األوروبــي. في املقابل، ثمة دول أخــــرى عــرفــت بـعـاقـاتـهـا االقــتــصــاديــة الــــوطــــيــــدة مــــع روســـــيـــــا، لـــعـــل فــــي مـقـدمـتـهـا أملــــانــــيــــا، أبـــــــدت حــــزمــــا فــــي قـــطـــع الـــعـــاقـــات التجارية معها، مما أدى إلـى تراجع حصة الغاز الطبيعي الروسي في واردات االتحاد األوروبي من أكثر من %40 في عام 2021 إلى %8 فقط أو نحو %15 شاملة الغاز املسال، وفق أرقام مجلس االتحاد األوروبي عن عام .2023 وفـــي سـبـتـمـبـر/أيـلـول ،2022 تـوقـف ضـــخ الـــغـــاز الـــروســـي إلــــى أوروبــــــا عــبــر خط األنابيب الرئيسي «السيل الشمالي» املمتد إلى أملانيا عبر قاع بحر البلطيق بعد واقعة تــفــجــيــره، مـــا اضــطــر مــوســكــو إلـــى مـواصـلـة اعـتـمـادهـا عـلـى خــط أنــابــيــب الــغــاز «الـسـيـل التركي» وأوكرانيا بصفتها بلد الترانزيت. وخــال األيــام القليلة املاضية، عــادت قضية تفجير «السيل الشمالي» إلى الواجهة بعد إدراج أملانيا أحد املشتبه بهم بتنفيذ العمل الــتــخــريــبــي فـــي بــحــر الــبــلــطــيــق عــلــى قـائـمـة املـــطـــلـــوبـــن، وهــــو غـــــواص يـــدعـــى فـاديـمـيـر جـورافـلـيـوف ويحمل الجنسية األوكـرانـيـة. ومــــع ذلــــك، أثـــــارت الـتـحـقـيـقـات األملـــانـــيـــة في واقعة تفجير أنابيب الغاز حفيظة موسكو، إذ اعتبر رئيس قسم أوروبـــا الثالث بــوزارة الــخــارجــيــة الـــروســـيـــة، أولـــيـــغ تــريــابــكــن، في تــصــريــحــات لــوكــالــة نــوفــوســتــي الـحـكـومـيـة الـــــروســـــيـــــة مـــطـــلـــع األســــــبــــــوع الـــــــجـــــــاري، أن الترويج لفكرة مفادها أن املنفذين ال يمتون إلـــى الــدولــة األوكــرانــيــة بصلة يـنـذر بـإغـاق الــتــحــقــيــق األملــــانــــي مـــن دون الــــوصــــول إلــى املـحـرضـن الفعلين عـلـى التفجير، مـشـددًا على أن روسيا لن تقبل بذلك. وفـي عـام 2022 أيضا، توقف ترانزيت الغاز الروسي عبر بولندا إلى أملانيا بواسطة خط أنابيب «يامال - أوروبــا» الـذي كانت تمر به %15 مـــن صـــــادرات «غــــازبــــروم» إلـــى أوروبــــا وتركيا، وذلك بعد فرض العقوبات الروسية الجوابية بحق الشركة املالكة للشق البولندي مـــن خـــط األنـــابـــيـــب. وتـشـيـر بــيــانــات الـشـركـة املشغلة ملنظومة نقل الغاز األوكرانية إلى أن ترانزيت الغاز الروسي عبر أوكرانيا تراجع هـــو اآلخـــــر بــنــســبــة %28.5 مـــن 20.5 مـلـيـار متر مكعب فـي عــام 2022 إلــى 14.65 مليارًا في العام املاضي. وكانت شركتا «غازبروم» و«نفتوغاز» قد أبرمتا في نهاية عـام 2019 عـــقـــدًا مـــدتـــه خــمــس ســـنـــوات نـــص عــلــى ضخ عماق الغاز الروسي 225 مليار متر مكعب من الغاز عبر أوكـرانـيـا، بما فيها 65 مليارًا في عـام 2020 و04 مليارًا في كل من األعــوام الــتــالــيــة. وبـــذلـــك يـبـقـى خـــط الــتــرانــزيــت عبر أوكـرانـيـا هـو املـسـار الوحيد إلمـــدادات الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية والوسطى، حيث إن اإلمدادات عبر «السيل التركي» مخصصة لبلدان جنوب وجنوب شرق أوروبا.
النمسا األكثر تضررًا حيث تتلقى الجزء األكبر من احتياجاتها عبر األنبوب األوكراني