Al Araby Al Jadeed

عن تراث ساخر تجنبته الحداثة

أسماء السكوتي ِحيلة الستعادة مقامات الحريري في ندوة افتراضية نّظمتها «الجامعة األميركية» ببيروت، قرأت الباحثة المغربية أسباب تغييب مقامات الحريري عن المشهد األدبي المعاصر

- بيروت ـ أنس األسعد

تشبه حياتنا سيعود ذلـك الشعر مقروءًا. اليوم تكتب الكثير من القصائد واألعمال املــتــشـ­ـابــهــة واملــتــن­ــاســخــة والــــســ­ــائــــدة، ذات املوضوعات واألشـكـال املـكـررة التي أعطت القراء وإنسان اليوم انطباعًا بأنه ال جديد في هذا العالم الشعري، وأن كل ما سيكتب كتب قبل هذه املرة.

■ هـل تـوافـق على أن الشعر املترجم مـن اللغات األخرى هو اليوم أكثر مقروئية من الشعر العربي، وملاذا؟ نعم أتفق معك، ولعل السبب في ذلك يعود إلــى أن الشعر العربي ظــل لفترات طويلة، وال يــــــزال، يــــقــــ­دم عــلــى أنـــــه درس ونــمــطــ­ي. على الشاعر أن يتقنه أكثر من كونه شعرًا، وعلى الـقـارئ أن يؤمن بــأن للشعر حـدودًا وقالبًا صارمًا، لذا ظل محددًا بعوالم فنية وأشكال قارة فقدت معها قارئها. حتى تجد أن ألفية ابن مالك في النحو يعدها البعض شعرًا فقط ألنها كتبت وفق ضوابط الشعر العربي، هذا واحـد من األسباب التي دعت القارئ إلى البحث عن الشعر في الشعرية الـــقـــا­دمـــة مـــن الـــعـــا­لـــم، مـــن أوروبـــــ­ــا، والــهــنـ­ـد وأفــريــق­ــيــا، وكــــل مـــكـــان، لـيـجـد هــنــاك آفــاقــًا أخرى. ال أفصل بن مفهوم الشعر والشعر العربي، فـــالـــش­ـــعـــر فــــــن مـــتـــصـ­ــل بــــأمـــ­ـم وحـــــضــ­ـــارات وشـعـوب الـعـالـم كـلـه. لكني أعتقد أن أزمـة شـعـرنـا الـعـربـي هــي أزمـــة ذاكــرتــه العريقة الــــتـــ­ـي كـــــان يـــمـــكـ­ــن قــــراءتـ­ـــهــــا الــــيـــ­ـوم بـشـكـل مـخـتـلـف، يـخـلـق ذلـــك االمـــتــ­ـداد إلـــى الــيــوم، ويــســتــ­مــر فـــي تـــجـــدي­ـــده، مـــواكـــ­بـــًا ومــوظــفـ­ـًا طاقته اللغوية الكبيرة. لأسف ما زلنا نقرأ حاالت من الكتابة التي تستعيد ذلك اإلرث الـجـمـالـ­ي الــهــائـ­ـل كـمـا هــو دون أن نجعله ممثا لنا في حياتنا اليوم، وبالتالي من دون أن يشبهنا.

يخطر في بالي أحيانًا عبد الله البردوني عـــائـــدًا بـــ «مــديــنــ­ة الـــغـــد» وقـــد وجـــد «جـــواب العصور». محمد املاغوط و«غرفته املليئة بماين الجدران»، وأبو العاء معتذرًا عن لزومياته بعد الهايكو، واملتنبي، وصاح عـبـد الــصــبــ­ور بــــ«أحـــام الـــفـــا­رس الــقــديـ­ـم»، وعــــلـــ­ـي الـــدمـــ­يـــنـــي وقــــــد اســــتـــ­ـعــــاد «بـــيـــاض األزمنة».

أتمنى أن يمضي الشعر العربي إلى لحظة مـتـمـاهـي­ـة أكــثــر مــع الــهــم اإلنــســا­نــي الــيــوم، وأن يجد فـي طريقه أولـئـك الشعراء الذين يكتبونه بلغة وفـكـرة تشبه لحظتنا على األقــــــ­ل، فـــي قــضــايــ­اهــا وهــمــومـ­ـهــا وعــاملــه­ــا املتجدد، ليقف نـدًا لزمن تقني وإلكتروني واصطناعي، وهذا ما ال يمكن إال مع شعراء قــــادريـ­ـــن عـــلـــى قـــــــرا­ءة واقـــعـــ­هـــم ولـحـظـتـه­ـم الجديدة بوعي. كان من املفترض أن تقدم الباحثة املغربية أسماء السكوتي محاضرتها «ملاذا يجب علينا قراءة مقامات الحريري في القرن الواحد والعشرين؟» وجاهيًا، مساء الثاثاء املاضي في «الجامعة األميركية» ببيروت، لكن أجواء قتل الحياة التي يسعى االحتال اإلسرائيلي إلى فرضها على لبنان، ومـــا أشــيــع ليلتها مــن عــــدوان مـحـتـمـل عـلـى املــطــار (وقــع بالفعل على الضاحية الجنوبية للعاصمة) أدت إلى إلغاء رحلتها، فجرى تعويض اللقاء افتراضيًا. انـطـلـقـت الـسـكـوتـ­ي مـــن تـعـريـف املــقــام­ــة بــأنــهــ­ا «حـكـايـات متخيلة مسجوعة ليس بينها أي رابط زمني أو جغرافي، ولــكــنــ­هــا تــشــتــر­ك فـــي تــفــكــي­ــرهــا بــالــلــ­غــة، مـــن خــــال تـتـبـع شخصية مـحـتـال بليغ ينتقل مـن مـكـان إلــى آخـــر، يتبعه راو مفتون بـــاألدب والـفـصـاح­ـة»، منبهة إلــى أن «الحيلة مستبطنة بلفظة املـقـامـة نفسها، فاملقامة تعني املكوث فـــي حـــن تــحــكــم عــلــى شـخـصـيـات­ـهـا بـالـسـفـر واالرتــــ­حــــال. إنـهـا باختصار حكاية أذن وقـــدم». وفــي عرضها حكاية املـقـامـا­ت، أحـالـت الباحثة إلــى ترجمة الـحـريـري (644هــــ/ م1054 - 516 هـ/ ،)م1122 كما أوردها ياقوت الحموي في «معجم األدبــاء»، حيث توجه الحريري إلى بغداد لعرض مقاماته األربعن، ألن مثقفي بغداد لم يصدقوا أنه كتبها، ليظل أربعن يومًا في بيته ببغداد عاجزًا عن تأليف كلمة واحـــــدة. وبــعــد عــودتــه إلـــى الــبــصــ­رة جــــارًا أذيــــال الخيبة، عـاد إليه إلهامه وكتب عشر مقامات أخــرى، ثـم رجـع إلى بغداد مرة أخرى وأثبت أبوته لنصه، وبعدها بدأ الطلبة والعلماء بالتسابق لسماع مقاماته. لكن العجيب، وفقًا للسكوتي، هو هذا االنتقال من العجز إلـــى االنـــتــ­ـشـــار، بـــل «اإلعــــجـ­ـــاز»، بتعبير بـعـض الـكـتـابـ­ات الـتـراثـي­ـة الـتـي أعـجـب أصـحـابـهـ­ا، مثل الـصـفـدي، بصنيع الحريري. مع ذلك، فإن «هذه النصوص غائبة عن مشهدنا الثقافي العربي اليوم وال يكاد يعرفها إال املتخصصون، فــمــا الـــــذي رآه قــــــراء مـــا قــبــل الـــحـــد­اثـــة، وفــشــلــ­نــا نــحــن في رؤيـتـه؟»، تتساءل صاحبة «ممالك الغرباء: الـقـراء، اللغة، والحيلة في مقامات الـحـريـري»، وهـو عنوان أطروحتها التي حــازت عليها الـدكـتـور­اه، مـؤخـرًا، من «جامعة برلن الـحـرة». لم يكن الحريري أول من كتب املقامات، إذ سبقه إليها بـديـع الــزمــان الـهـمـذان­ـي فــي الــقــرن الــرابــع الهجري، لكن املقامات لم تحتل املشهد األدبي إال مع الحريري الذي أضـاف إليها، وفقًا للمحاضرة، «البنية السردية وتبئير اللغة واالحـتـفـ­اء بالغموض، مـن خــال راويـــه الـحـارث بن همام وبطله أبي زيد السروجي». تضيف: «لم يهتم البحث األكاديمي املعاصر بإطار الغربة والغرابة هذا، فماذا كانت املقامات لتكون لو لم يكن السروجي هاربًا من أرضه التي احتلها البيزنطيون؟ إذ ال حيلة إال فـي الـغـربـة. وليست املقامات إال سخرية من االستقرار أوال وأخيرًا، فالسروجي بغربته وغرابته يكسر رتابة االستقرار املرادف للفشل». تحاجج الباحثة املغربية من زاوية ما بعد حداثية واضحة تقترب فيها مــن مــقــوالت مواطنها الـنـاقـد والـــروائ­ـــي عبد الفتاح كيليطو، الذي يعد أبرز املشتغلن املعاصرين على مــقــامــ­ات الـــحـــر­يـــري، وعــلــيــ­ه، تــرفــض أن تـــوصـــف املــقــام­ــات بالتكرار أو أنها مكشوفة سلفًا أمـام القارئ، وتعتبر مثل هـذه النقودات متأثرة بمنطق العقل الحداثوي الوظيفي الــــذي عــبــر عــنــه بــعــض املــســتـ­ـشــرقــن، قــبــل أن يـتـسـلـل هــذا املـوقـف «الـرصـن» إلـى كتابات عربية مثل سامة موسى وعـلـي الــــوردي فــي «أســطــورة األدب الــرفــيـ­ـع»، حيث انتقد انحطاط املقامات في العصور املتأخرة وقاربها بالتهريج. وفــــي الــســيــ­اق ذاتـــــه، تــشــيــر الــبــاحـ­ـثــة إلــــى مــفــارقـ­ـة عـاشـهـا الحريري نفسه؛ إذ كتب أن «األسجاع ال تشبع من جاع»، فـــي إشـــــارة مـنـه إلـــى أن االشــتــغ­ــال بـــــاألد­ب ال يــأتــي بـاملـال لصاحبه، لكن املقامات «أشأمت وأعرقت»، وإعجاب النقاد الـقـدمـاء بها نقل األديـــب الـبـصـري مـن مـوظـف بسيط إلى رجل غني يملك 18 ألف نخلة! وعلى وجاهة األسباب التي ذكرتها أسـمـاء السكوتي فـي محاضرتها، تبقى دعوتها الســتــحـ­ـضــار مــقــامــ­ات الـــحـــر­يـــري دعـــــوة بــنــيــو­يــة، ال تملك قابلية لانفتاح على أسباب أخرى: اجتماعية وسياسية. وإليضاح ما نريد قوله، نستعن بمثال قريب، ففي كتابه «بــنــات آوى والـــحـــ­روف املــفــقـ­ـودة: عــن الـحـيـوان­ـات الناطقة فـي لحظات الـخـطـر» («الــكــرمـ­ـة»، ،)2023 يستعيد الكاتب املصري هيثم الورداني ابن املقفع من زاوية «لحظة الخطر السياسية» التي عاشها في القرن الثاني الهجري، لحظة حتمت على «العجماوات» (الحيوانات) أن تنطق في كتابه «كليلة ودمنة» الذي وضعه/ ترجمه عند منعطف تاريخي هددت فيه السلطة حياته قبل أن تبطش به بالفعل. التقاطة يسترجعها الـــوردان­ـــي فــي زمـــن مــا بـعـد الـــثـــو­رات العربية وفي ذروة انتشار جائحة كورونا، ليجعل ابن املقفع حيًا بيننا من لحم ودم. ربما هذه اإلضافة هي ما كانت تنقص الحريري كما قدمته لنا السكوتي، وإن تفاعلت بإيجابية مع هذه الفكرة التي طرحت في النقاش الذي تا املحاضرة.

 ?? )Getty( ?? مشهد من مقامات الحريري في منمنمة للواسطي تعود إلى القرن الثالث عشر
)Getty( مشهد من مقامات الحريري في منمنمة للواسطي تعود إلى القرن الثالث عشر

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar