Al Araby Al Jadeed

جريمة تبحث عن عقاب

- معن البياري

بقياس الغائب على الشاهد، ليس متوقعًا أن ترد إيران على ارتكاب العدو الصهيوني جريمة اغتيال إسماعيل هنية الذي كان في ضيافتها، فلم تفعل ملا قضى عالم الذرة اإليراني، محسن فخري زاده، في طهران، في كمني باستخدام بندقية ذاتية أطلق رصاصها عليه قمر صناعي، في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2022 وإن لم تعترف إسرائيل بالجريمة، كما لم تعلن، حتى اللحظة، صراحة، مسؤوليتها املؤكدة عن قتل هنية في غرفته في طهران. وفي وقائع أخرى، قبل قتل زاده وبعده، استهدفت إسرائيل علماء وأهدافا إيرانية في الداخل، وفي األراضي السورية، ثم لم نلحظ أي «رد مزلزل» وال «معادلة جديدة» في الصراع بني الجانبني. وعندما ردت طهران على قصف إسرائيل مبنى قنصليًا إيرانيًا في دمشق، قضى فيه جنراالت إيرانيون رفيعون، بضرب مواقع في داخل دولة االحتالل، بدا هذا كأنه حفظ ملاء الوجه، قال من قال إنه كان متوافقا عليه، وتعاملت معه إسرائيل بشيء من أريحية نادرة، إذا جاز الوصف. ... وإذا كان ألي منا أن يستدعي إلى البال املعجم اإليراني إياه، الذي يذهب إلى «محو إسرائيل» و«الوعد الصادق» و«عقاب املعتدي» و«ندم إسرائيل»، وما شابه، فإن امللحوظ أن تصعيدًا لفظيًا عاليًا بدت عليه لغة قادة إيران في وعيدهم بالعقاب الذي ستلحقه بالده بالكيان الصهيوني، جراء جريمته اغتيال إسماعيل هنية، الـــذي كــان مستضافًا لحضور مـراسـم تنصيب رئـيـس جـديـد للجمهورية اإلسالمية، مسعود بزشكيان. وهذا رئيس األركان، اللواء محمد باقري، يقول إن رد بالده على الجريمة «حتمي»، و«سيندم الصهاينة على ما فعلوه»، وسبقه الرئيس بزشكيان الذي توعد بتدفيع العدو ثمن جريمته، كما أن املرشد خامنئي أعلن أن الثأر لضيف بالده «العزيز» واجب. وإذ نعرف، قبل ضرب إسرائيل كل الخطوط الحمر، مع إيران (وغيرها)، أنها شهية نتنياهو، وأمثاله من يمني اليمني الفاشي الحاكم في دولة االحتالل، لحرب مع إيران، كبيرة، ولو بتورط الواليات املتحدة، فإن لنا أن نتوقع أن ردًا إيرانيًا، قويًا وذا أثر مشهود، يضرب إسرائيل في داخلها، سيكون له أثره البالغ، ميدانيًا، وفي غير وجهة عسكرية، غير أن لنا، في الوقت نفسه، أن نتريث بعض الشيء، ونضبط سقوف السيناريوه­ات التي يـروق لغير قليلني منا، نحن املعلقني واملشتغلني في اإلعالم، بناؤها وصياغة خيوطها، فالوحش اإلسرائيلي، مهما تمادت يداه الطويلتان، ليس فـي وسـعـه أن يتجاوز حسابات أميركية مرسومة فـي اإلقليم، وإن «تسامحت» واشنطن مع عدم إخطارها باإلقدام على اغتيال ضيف رفيع املكانة في طهران، وإن يقع «حق» إسرائيل في الدفاع عن نفسها في منزلة املقدس في األعراف األميركية، كما هو «أمن إسرائيل» في منزلة أمن الواليات املتحدة، أيًا كان نزيل البيت األبيض. كـان مجرى األحـــداث يمضي باتجاه معالجة العثرات غير القليلة في مفاوضات وقـف إلطـالق النار في غــزة، ضمن خطة من مراحل ثـالث، تفضي إلـى إفــراج عن املحتجزين اإلسرائيلي­ني لدى املقاومة الفلسطينية، غير أن هذا املجرى انعطف إلى أجواء توتير وتأزيم أرادها نتنياهو، مع عودته من الواليات املتحدة، وقد استشعر، ربـمـا، لحظة ارتـبـاك فـي اإلدارة األميركية، فكانت الضربة إيـاهـا فـي حــارة حريك في الضاحية الجنوبية، وقضى فيها اغتياال القائد امليداني الرفيع في حزب الله، فؤاد شكر، ثم استثمار ضعف الحس األمني لدى القائد السياسي لحركة حماس، واملوضوع في بنك األهداف اإلسرائيلي­ة منذ سنوات، إسماعيل هنية، باغتياله في العاصمة اإليرانية. أما املجرى الذي ستنعطف إليه األحـداث بعد االغتيال املزدوج هذا، فليس من وظائفنا، نحن املتفرجني واملعلقني، أن نكون بصارين، فمسؤولون أوروبيون عديديون يتحركون في اتصاالت نشطة، ومسؤولون عرب يستفظعون حربًا إقليمية يجر نتنياهو املنطقة إليها، يعملون من أجل أن يكون وقع االنعطافة املحتملة مضبوطًا ما أمكن، ولسنا نعلم على أي مرسى سترخي الرياح شهوات املواجهة املطلوبة، أو املتوقعة، أو املستعجلة. كأنها جريمة تبحث عـن عـقـاب، كأنها على غير جـرائـم بـال عــدد، اقترفها العدو اإلسرائيلي في غـزة وعموم فلسطني، وفي لبنان وسورية وغيرهما، من دون أن يجري أي بحٍث عن عقاٍب ألٍّي منها ... كأن الحال في هذه املّرة مختلف.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar