Al Araby Al Jadeed

ياسمينة خضرا وإشكالية الهوية الجامعة في الجزائر

- محمد سي بشير

انــتــشــ­ر، أخـــيـــرًا، عـلـى الــفــضــ­اء االفــتــر­اضــي، محتوى ملداخلة إعالمية حل فيها الروائي الـجـزائـر­ي، ياسمينة خضرا، ضيفًا. وكان من بني ما سئل عن تعامله مع قرائه لحظة الـبـيـع بــــاإلهـ­ـــداء، ومـــن بـــني مـــا أجــــاب عـنـه، في كلمات خارجة عن إطار الحديث، قوله إنــــه ال يــوقــع عـلـى إهــــداء إذا كـــان صاحبه

ًّ (صاحبته) ممن يعرف نفسه بأنه قبائلي (أمــــازيـ­ـــغــــي)، مــعــلــا­ل ذلــــك بـــأنـــه تـعـبـيـر عن إرادة لتقسيم الــــوالء­ات االنتمائية للبالد (الــجــزائ­ــر). بـالـرغـم مــن أن هــذا التصريح، وفــــق بــعــض املــــصــ­ــادر، مـــن الـــعـــا­م املــاضــي، إال أنــه لـم يظهر إال قبل أيـــام، وأوقـــع لغطًا كـبـيـرًا، وخـصـوصـًا على وسـائـل التواصل االجتماعي، إذ كال كثيرون من سكان هذه املنطقة االنتقاد لـلـروائـي على كالمه غير الدقيق، حيث إنه، بحكم موقعه الثقافي، ال يجب أن يجهل أبديات التنشئة وألـف باء الـهـويـة ببعديها، الـجـامـع واملـنـاطـ­قـي، في بلد شاسع، مثل الجزائر، يجمع فيه أبناؤه على عشق بلدهم. لكن كل من منطلق جمعه بني البعدين، كما سيأتي، ردًا على مقولة يـاسـمـيـن­ـة خــضــرا، مــن نــاحــيــ­ة، ومـنـعـًا من توسع النقاش إلى ما هو أبعد من الهوية، بالبعدين املذكورين، من ناحية أخرى. لــلــهــو­يــة بـــعـــدا­ن، جـــامـــع ومــنــاطـ­ـقــي، وهـمـا مـــتـــكـ­ــامـــالن يــعــيــش بــهــمــا اإلنـــــس­ـــــان، وهـــو مطمئن إلــى صـحـة والئـــه لبلده وحـبـه كل ما تربى عليه في أكناف عائلته الصغيرة، ويحمل ذلــك عـنـوان التنشئة االجتماعية والـــســـ­يـــاســـي­ـــة، حــيــث تــكــبــر مـــع املــــــر­ء، منذ صــــبــــ­اه، وتـــغـــذ­يـــه مـــنـــاب­ـــع عــــديـــ­ـدة صــانــعــ­ة املـواطـن، الناخب، املـحـارب واملـحـب لوطنه وملنطقته، قريته وعائلته، من دون صـدام يــــذكـــ­ـر أو نـــقـــاش يــعــطــر صـــفـــو الــتــعــ­اضــد االجـــتــ­ـمـــاعـــ­ي والـــتـــ­مـــاســـك املــجــتـ­ـمــعــي، مما يكون ياسمينة خضرا ال يعرفه، حتى تأتي كـلـمـاتـه تـلـك غـيـر ســويــة ومــوقــعـ­ـة كـــل ذلـك االنـتـقـا­د فــي الــجــزائ­ــر. يعتبر الـجـامـع، في بعد الهوية األول، كل ما ال يمكن النقاش بـشـأنـه، داخـــل املـجـتـمـ­ع، أو بـعـبـارة أخــرى كــل مــا يحمل عــنــوان املــقــدس مــن مكونات الشخصية الوطنية على غرار تاريخ البالد، الـعـلـم، الـلـغـة الـرسـمـيـ­ة أو الـرسـمـيـ­ة منها، دستوريًا، إضافة إلى الحدود أو جغرافية الـبـالد، دينها اإلســالمـ­ـي، مذهبها الفقهي (املالكي)، بل وقراءتها القرآن (رواية ورش مـــن لـيـبـيـا إلــــى املــــغــ­ــرب)، مــكــانــ­ة الــشــهــ­داء، بــالــنــ­ظــر إلـــــى مـــاليـــ­ني مــــن قـــضـــوا مــقــاومـ­ـة وجهادًا ضد املستدمر الفرنسي، من 1830 إلى ،1962 وهي قضايا كلية جامعة ال تكاد تـجـد جــزائــري­ــًا يـخـالـف بـشـأنـهـا أو يمكنه حتى التشكيك في إحداها. تــتــفــر­ع مــن تـلـك الــهــويـ­ـة الـجـامـعـ­ة هــويــات فـــرعـــي­ـــة مـــمـــا نــطــلــق عـــلـــيـ­ــه، فــــي الـــجـــز­ائـــر، الـــفـــل­ـــكـــلــ­ـور، الـــلـــه­ـــجـــات املـــحـــ­لـــيـــة، األطــــبـ­ـــاق، الثقافات املناطقية بما تتضمنه من شعر، موسيقى وطبوع محلية يفخر بها الكل، ولكن في إطار التنوع لبلد مساحته قرابة 2.4 مــلــيــو­ن كــلــم مـــربـــع بــصــحــر­ائــهــا، تلها وســـاحـــ­لـــهـــا، ّومــــن ســـكـــان عـــاشـــو­اّ تــجــارب مختلفة وتربوا على تنشئات متنوعة، لكن في تناغم تام وتكامل متسق بني املكونني الجامع والفرعي/ املناطقي للهوية، مما لم يفهمه ياسمينة خضرا. ومــن يـهـن يسهل عليه الـــهـــو­ان... تلك حال يـاسـمـيـن­ـة خــضــرا الــــذي اسـتـسـهـل، باحثًا عن الصعود األدبي، على غرار أمثاله كمال داوود، بـــوعـــا­لم صــنــصــا­ل أو الـــطـــا­هـــر بن جلون، حيث ذهب، بعيدًا، في عملية البحث تــلــك، مـــبـــرزًا ذلـــك الـــــوال­ء لــتــيــا­ر أدبــــي نـاكـر للتاريخ وغير مهتم بمكونات الهوية، ظنًا منه أن الناس ال تقرأ أو تنسى التصريحات، الكتابات واملـواقـف. ولعلنا نذكر له، كلنا، تــالعــبـ­ـه بـــرمـــو­ز ثــابــتــ­ة فـــي تـــاريـــ­خ الـــبـــا­لد، ليمتدح العصر الكولونيال­ي الفرنسي في روايـتـه «فضل النهار على الليل» برمزية الليل االستعماري (عنوان كتاب للمجاهد فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية املــــؤقـ­ـــتــــة فـــــي أثـــــنــ­ـــاء الـــــحــ­ـــرب الـــتـــح­ـــريـــري­ـــة الـــجـــز­ائـــريـــ­ة الـــكـــب­ـــرى)، ومــقــابـ­ـلــتــه بــالــنــ­هــار الذي يمثله استقالل الجزائر، محاوال، زعم مــحــاكــ­اة قــانــون تمجيد االســتــع­ــمــار الــذي كــان قـد اقترحه الّرئيس الفرنسي الـّراحـل جاك شيراك على البرملان الفرنسي، ورفض بعد تنديد الجزائر واملثقفني الشرفاء في فــرنــســ­ا نـفـسـهـا، لــيــكــو­ن يـاسـمـيـن­ـة خـضـرا هو من يجعل ذلك التمجيد قربانًا لطبقة سياسية ومثقفة فرنسية تشعر بالحنني لالستعمار االستيطاني الفرنسي، لعلها تمنحه جــائــزة مــا منعتها عــن أقـــرانــ­ـه من األدبـــــ­ـاء الـــجـــز­ائـــريـــ­ني الـــذيـــ­ن كــتــبــو­ا، مـثـلـه، بـــالـــل­ـــغـــة الـــفـــر­نـــســـيـ­ــة، ولـــكـــن­ـــهـــم كــــانـــ­ـوا فـي مستوى تـاريـخ بـالدهـم وهويتها، وليس ضدها كما فعل خضرا بروايته تلك. لــــم يـــتـــوق­ـــف يــاســمــ­يــنــة خــــضــــ­را عـــنـــد هـــذا الــحــد، بــل كـانـت روايـــاتـ­ــه، كـلـهـا، بـرمـزيـات مــتــنــا­قــضــة مـــع ســـيـــاق­ـــات هـــويـــة األمــــــ­ة في رؤيته إلى اإلرهـاب والحرية، وإلى ظواهر وجودية أخرى، مضمنًا أعماله األدبية ذلك الــتــوجـ­ـه املــصــر عـلـى مـسـار مـحـابـاة اآلخــر الـكـاره هـويـة الجزائر مـن منطلق املطالبة واإلصــرار على املطالبة بثالثية االعتراف، االعـــــت­ـــــذار ثـــــم الـــتـــع­ـــويـــض، مــــن املــســتـ­ـوطــن الفرنسي عن جرائمه املقترفة قرنًا ونيف مـــن اســتــيــ­طــانــه. وكـــــان لـيـاسـمـي­ـنـة خـضـرا وأمــثــال­ــه مــمــن ذكــرنــاه­ــم، مــن الــجــزائ­ــريــني، مـــواقـــ­ف تــســانــ­د فــرنــســ­ا، لـكـنـنـا لـــم نعتقد، يومًا، أن سياقات الهوية مختلطة عنده إلى هذه الدرجة التي ال يفرق فيها بني الهوية الـجـامـعـ­ة والــهــوي­ــة الـفـرعـيـ­ة أو املناطقية، بحكم أنه من النخبة املثقفة، وباللعب على وتــر الـتـوافـق املجتمعي، بتصريحه الـذي تصدر هذه املقالة، والذي يدلل سياقه على الخلط فــي سـيـاقـات الــهــويـ­ـة، فــي الـجـزائـر، وهــو مـا ال يمكن أن يـصـدر عـن روائـــي من املفترض أن يكون كالمه منفتحًا الستيعاب االخــــتـ­ـــالفــــ­ات والــــتــ­ــنــــوعـ­ـــات االجـــتــ­ـمـــاعـــ­يـــة، الــثــقــ­افــيــة واألنــثــ­روبــولــو­جــيــة الــجــزائ­ــريــة، ليكون ذلـك دلـيـال إضافيًا على قصور في الرؤية وفي فهم املجتمع الجزائري. أو، إذا وسعنا النظر إلـى املسألة بصفة واقعية، مــحــاولـ­ـة غـيـر مـوفـقـة لـلـحـديـث عــن مسألة الــوحــدة الوطنية، ألن كـالمـه، بعد كلماته املـــــذك­ـــــورة، تــضــمــن اإلشــــــ­ـارة إلــــى ضــــرورة التعريف بالهوية الجامعة، وليس بالهوية الفرعية، وهي مسألة معروفة، في الجزائر، حيث يعمل الجميع على التعريف بالنفس مـــن خـــالل االنــتــم­ــاء الــجــامـ­ـع، وهـــو األغـلـب ويــراه الكل بل ينتقد الجزائريني، بسببه، مــثــل ذلـــك الــســلــ­وك الــــذي أضــحــى مالصقًا لهم برفع العلم في كل مكان خصوصًا في التظاهرات الرياضية الدولية، حتى التي ال مشاركة للجزائر فيها. أمـــــــا الـــتـــع­ـــريـــف الـــــــذ­ي انــــتـــ­ـقــــده يــاســمــ­يــنــة خـضـرا، أي بالهوية الفرعية، فهو سلوك إلبــــــر­از االنـــتــ­ـمـــاء املــنــاط­ــقــي مـــن دون بــعــد اإلعــالء منه على حساب االنتماء الجامع،

على الجميع، في الجزائر، نبذ ذلك التفريق، عن جهل، بين الهويتين، الجامعة والفرعية المناطقية، فالمخيلة والسلوك يضعان كًال منهما في المكان اللائق به

ألن الكل يستخدم الهويتني في آن واحـد، ويعرف كيف ينتقل من األولى إلى األخرى، وتـرتـيـبـ­هـمـا فـــي مـخـيـلـتـ­ه وفــــي عــقــلــه. وال مـشـكـلـة لـــدى كـــل الــجــزائ­ــريــني إال مـــن شـــذ، والـــــشـ­ــــاذ يـــحـــفـ­ــظ وال يــــقــــ­اس عـــلـــيـ­ــه، وهـــو مــا ال يـعـقـل أن الـــروائـ­ــي كـــان يــقــصــد­ه، ألن تلك األقـلـيـة مـنـبـوذة فــي كــل الـجـزائـر وفي املنطقة القبائلية، نفسها. نصل إلى املسألة األخرى الحيوية، وهي املتصلة بمضمون االنتقادات التي كيلت لتصريح ياسمينة خـضـرا، ووصـلـت إلــى درجــة رمــي بعضهم روايـــــا­تـــــه، فــــي املـــــزا­بـــــل، مــــصــــ­ورة ومـــوثـــ­قـــة عــلــى وســـائـــ­ل الــتــواص­ــل االجــتــم­ــاعــي، ذلــك أن التصريح مـوجـع لسكان املنطقة التي عناها خضرا في كالمه، وهم منصهرون، عـــلـــى غــــــرار مــواطــنـ­ـيــهــم مــــن الـــجـــز­ائـــريـــ­ني، فـــي بــوتــقــ­ة الــهــويـ­ـة الــجــامـ­ـعــة بـمـكـونـا­تـهـا املـذكـورة، وال يــرون بأسًا وال مساسًا بها، عندما يتحدثون عن ذلك االنتماء الفرعي بـكـل مــا يتضمنه مــن ثــــراء يـعـرف خـضـرا، تمام املعرفة، أنه يضيف إلى ثراء الجزائر وتــنــوعـ­ـهــا وال يــحــمــل أي تـــضـــار­ب، ال في املـخـيـلـ­ة، وال فــي املــمــار­ســة، مــن الــكــل ومـن سكان املنطقة، على وجه الخصوص. على الجميع، في الجزائر، نبذ ذلك التفريق، عن جهل، بني الهويتني، الجامعة والفرعية املناطقية، فاملخيلة والسلوك يضعان كال منهما فـي املـكـان الـالئـق بــه. وكـــان األجــدر بياسمينة خـضـرا إنــتــاج روايــــات وأعـمـال أدبــــيــ­ــة يـــعـــتـ­ــذر بـــهـــا عــــن تـــالعـــ­بـــه بـــالـــر­مـــوز الهوياتية الوطنية، وليس االستمرار في اجترار سياقات تفكير إرضائية ملن ينتظر مـنـهـم أن يـمـنـحـوه جـــائـــز­ة مـــا. ولـيـعـلـم أن آسيا جبار، مولود معمري أو محمد ديب، ومعهم الطاهر وطار ومولود فرعون وعبد الحميد بـن هدوقـــة ومـالـك حـــداد، رحمهم الــــلـــ­ـه، لــــم يـــنـــال­ـــوا حـــتـــى مــــجــــ­رد الــتــرشـ­ـيــح لجائزة نوبل، وهم يستحقونها، وبخاصة الــثــالث­ــي الــعــمــ­الق ديـــب وجـــبـــا­ر ومـعـمـري، بسبب كـنـايـات هـــؤالء، جميعًا، املتضمنة الــتــعــ­بــيــر عــــن مـــعـــان­ـــاة الـــجـــز­ائـــريـــ­ني إبـــــان االستعمار االستيطاني وإبراز الشخصية الـجـزائـر­يـة بكل أبـعـادهـا فــي أثــنــاء «الليل االستعماري» الذي حاول خضرا وداوود، ومعهما صنصال، التنصل منه، بكل أسف، بحثًا عن الشهرة والجوائز.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar