تعذيب المعتقلين
غزيون مفرج عنهم يعانون اضطراب ما بعد الصدمة
يَُعّد اضطراب ما بعد الصدمة من األضرار النفسية التي ال مفر من اإلصابة بها بعد تعرض المعتقلين عمومًا، النتهاكات شبيهة بتلك التي يرتكبها االحتالل بحق الغزيين الذين يعتقلهم
مــنــذ بـــدايـــة الـــحـــرب املـــدمـــرة الـتـي تشنها قوات االحتالل اإلسرائيلي على قطاع غـزة واملتواصلة أكثر من ثمانية أشهر، يعاني الفلسطينيون في الــقــطــاع املــحــاصــر بمعظمهم مـــن اضــطــراب مـا بعد الصدمة أو اضــطــراب الـكـرب التالي لــــلــــرضــــح. كــــــل مـــــا يـــعـــيـــشـــه هـــــــــؤالء، صـــغـــارًا كانوا أم كـبـارًا، منذ الدقائق األولــى لعدوان االحـــتـــالل األخـــيـــر، كـفـيـل بـالـتـسـبـب فـــي هـذا االضـــطـــراب الـنـفـسـي، وفـقـًا للمقاييس التي يحددها املتخصصون في هذا املجال. وفي حني تختلف أعـراض هذا االضطراب ما بني فلسطيني وآخر، كل بحسب ما عاشه تحديدًا مـــــن أحـــــــــداث مـــرعـــبـــة وبـــحـــســـب شـخـصـيـتـه وقـــــدرتـــــه عـــلـــى املـــــقـــــاومـــــة، فـــــــإن األشــــخــــاص الـذيـن اعتقلهم االحـتـالل وعذبهم بمختلف الوسائل يعدون، إلى جانب األطفال، من بني أكثر املتضررين في هذا السياق. قـــبـــل أيــــــــام، انـــتـــشـــر تــســجــيــل فـــيـــديـــو يـظـهـر فـــيـــه الــفــلــســطــيــنــي بـــــدر دحـــــــالن، مــــن مـديـنـة خانيونس الـواقـعـة جنوبي قـطـاع غـــزة، مع عينني مفتوحتني على اتساعهما كأنهما تــــحــــدقــــان بـــمـــن حــــولــــه وكــــذلــــك بـــاملـــجـــهـــول، بعدما أطلق االحـتـالل سـراحـه. ولعل عيناه بـــبـــروزهـــمـــا غــيــر الــطــبــيــعــي أكــــدتــــا إصــابــتــه باضطراب ما بعد الصدمة، علمًا أن أطفاال كثيرين ظـهـروا بعيون مشابهة خــالل هذه الحرب بحسب ما وثقت صـور وتسجيالت فــيــديــو عـــديـــدة. كـــذلـــك، أتــــت حـــركـــات جـسـده ونطقه لتؤكد األمر نفسه، عندما راح يجيب عن أسئلة أحد الصحافيني بشأن حاله وهو يتلعثم، وأوضـح أنه تعرض لتعذيب شديد بمختلف الوسائل مشيرًا إلى ساقيه. وبدر دحالن واحد من بني آالف الفلسطينيني مــن قــطــاع غـــزة الــذيــن أفــــرج عـنـهـم االحــتــالل بـعـدمـا اعتقلهم وحــقــق معهم وعــذبــهــم في سجونه، منتهكًا حقوقهم وإنسانيتهم. وهو واحد من بني كثيرين أطلق سراحهم وظهرت عليهمُ أعــــراض اضــطــراب مــا بـعـد الـصـدمـة، فـيـمـا أصـــيـــب آخـــــرون بــإعــاقــات جـسـديـة من قبيل الصمم أو ضعف النظر أو تضرر أحد األطراف أو غير ذلك. وكـــان االحــتــالل اإلسـرائـيـلـي قــد أفـــرج، يوم الخميس املاضي، عن 33 أسيرًا فلسطينيًا مــن قــطــاع غـــزة، اعتقلتهم قــواتــه فــي أثـنـاء العمليات العسكرية الـبـريـة الـتـي شنتها فــــي أكـــثـــر مــــن نـــاحـــيـــة بـــالـــقـــطـــاع املــحــاصــر واملـــــســـــتـــــهـــــدف، فــــــي حــــــني أن مــــــن بــيــنــهــم أشـــخـــاصـــًا كــــانــــوا يـــحـــاولـــون الــــعــــودة إلـــى مــنــازلــهــم فـــي شـــمـــال قـــطـــاع غـــــزة، ال سـيـمـا مدينة غــزة. وقـد أفـــرج عـن هــؤالء مـن خالل
معبر القرارة الواقع بني حـدود مدينة دير البلح (وسط) ومدينة خانيونس (جنوب)، كان بدر دحالن واحدًا منهم. فــي تـسـجـيـل الـفـيـديـو الــــذي انــتــشــر، يـبـدو بدر دحالن مترددًا وهو يخبر عن سنه، ما بني 30 و92 عامًا. وبـالـتـردد نفسه يجيب عن األسئلة التي تطرح عليه، وهو في ما يشبه حـالـة تـشـوش ذهـنـي. وفــي محاولة للتعرف أكثر إلى حالة بدر دحالن، حاولت «الـــعـــربـــي الـــجـــديـــد» الـــتـــواصـــل مـــع أســرتــه التي هجر أفرادها بعد تدمير منازلهم في مدينة خانيونس. يقول محمد دحالن، ابن عم بدر، إنه كان يعاني من اضطراب نفسي قـبـل اعـتـقـالـه لــكــن حـالـتـه كــانــت مـسـتـقـرة، لكن االحـتـالل لم يستجب ملطالبه وحرمه من العالج وضربه بشدة، األمـر الـذي أدى إلى تفاقم حالته. يضيف أنه اآلن غير قادر على التركيز وال على التذكر، ويتلعثم في كل كالمه. وبـدر دحــالن، الـذي يسكن اليوم مع زوجته وطـــفـــلـــتـــهـــمـــا ســــنــــدس الـــبـــالـــغـــة مـــــن الــعــمــر أربعة أعــوام في مخيم نــزوح، شخص لديه اضـطـراب ما بعد الصدمة نتيجة التعذيب والــــظــــروف الــقــاســيــة الـــتـــي تـــعـــرض لــهــا في أثــنــاء االعــتــقــال. كــذلــك، تـبـدو آثـــار التعذيب
واضــــحــــة فــــي أســـفـــل قـــدمـــيـــه وأســــفــــل رأســــه مــن الــخــلــف، فــي حــني تــقــرحــت جــــروح يـديـه بــســبــب ربــطــهــا بـــقـــوة أليـــــام عـــــــدة. ويـخـبـر محمد دحــالن «العربي الـجـديـد»: «كــان ابن عمي يعيش حالة مستقرة مع تلقيه عالجًا لالضطراب النفسي املصاب به في األساس. وكـــان يــخــرج إلـــى عمله ويـلـعـب مــع طفلته. لكن بعد اإلفراج عنه، تبني أنه فقد جزءًا من ذاكــرتــه، ولــم يتمكن مـن الـتـعـرف إلــى بعض الناس». يتابع ابن العم أن «بدر عرض على أطباء في مستشفى شهداء األقصى بمدينة ديـر البلح، فهو حــول إليه بعد اإلفــرج عنه. وهـو الـيـوم مـا زال على حـالـه، ولـم ينفع أي عالج في مساعدته على النوم واالسترخاء وعـدم التفكير والكالم. وقد أعلمنا الطبيب أن بــدر فـي حـاجـة إلــى عــالج نفسي مكثف، إنما في خارج قطاع غزة. لكن املعابر مغلقة وبالتالي ال أمل بذلك». بدوره، أصيب الفلسطيني عمر الدالي البالغ من العمر 40 عامًا باضطراب ما بعد الصدمة بعد اعتقاله واإلفــــراج عـنـه، وهــو غير قــادر عـلـى الـنـطـق جــيــدًا حـتـى الـلـحـظـة. كـذلـك هو يتكل على ابنه األصغر مجد البالغ من العمر 19 عامًا، ليرافقه كيفما تحرك، إلى البحر كما إلى الحمام، علمًا أن لديه أربعة أبناء. كذلك
يساعده مجد فـي التعرف إلــى أشـخـاص لم يعد يتذكرهم. ويحسب ما أفــاد أطـبـاء، فقد أصيب عكر الدالي بارتجاج دماغي نتيجة ضـــربـــه عــلــى رأســــــه. فـــي هــــذا اإلطـــــــار، يخبر شــقــيــق عــمــر الــــدالــــي «الـــعـــربـــي الـــجـــديـــد» أن «قـبـل اعـتـقـالـه، كــان شقيقي شخصًا قياديًا ويتحمل املسؤولية ويقودنا في نزوحنا». وفـــي مـــــارس/ آذار املـــاضـــي، اعـتـقـلـتـه قـــوات االحــتــالل فـي مدينة خانيونس وأفــــرج عنه قبل شهر ونصف شهر. ويؤكد شقيق عمر الــدالــي أنـــه «الــيــوم فــي حـالـة صـدمـة نفسية. صحيح أنـــه تـحـسـن قـلـيـال مــع الـــعـــالج، غير
أن األدويــــة املـطـلـوبـة لــم تـعـد مـتـوفـرة أخـيـرًا بـحـسـب مـــا أخـــبـــره أحــــد األطـــبـــاء فـــي إحـــدى النقاط الطبية بمنطقة املواصي». مـــن جــهــة أخــــــرى، خــــرج الــفــلــســطــيــنــي صقر النجار البالغ من العمر 35 عامًا من املعتقل وقــــد فــقــد قـــدرتـــه عــلــى الـــنـــطـــق، وهــــو الــيــوم يشعر بالعجز إذ ال يستطيع الـتـواصـل مع أســــرتــــه فــــي أحـــــد مـــخـــيـــمـــات الــــنــــزوح غــربــي مدينة ديــر البلح. يـقـول والـــده عــزت النجار لـ«العربي الجديد» إنه يحاول االبتعاد قدر اإلمكان عن الناس والتجمعات، وفي املساء يـــنـــزوي ثـــم يـبـكـي بـــشـــدة. ويـخـبـر الـــوالـــد أن «آثــار الضرب كانت ظاهرة على رأس صقر وعلى ظهره عندما أفــرج عنه، وكــان جسده يـرتـعـش بـــشـــدة». يـضـيـف: «لـكـنـه فــي حاجة إلى عالج في مراكز متخصصة خارج قطاع غزة»، خصوصًا أن فقدانه القدرة على النطق من أعــراض اضـطـراب ما بعد الصدمة الذي أصيب به بسبب اعتقاله. وال يخفي الوالد أنــــه يــتــعــرض بـــــدوره إلـــى ضـغـط نـفـسـي من جــــراء حــالــه ابــنــه، ويـــقـــول: «عـنـدمـا أفــكــر في الــعــالج فــي الــخــارج، أتــذكــر أنــنــي رجــل فقير وابــنــي عــاطــل مــن الــعــمــل، ونــحــن فــي حاجة إلى املـال إلنقاذ حياته»، مشيرًا إلى أنـه «أب لطفلني». ويتابع: «باإلضافة إلى كل ذلك، ال معابر مفتوحة». في سياق متصل، يقول املتخصص النفسي مـــحـــمـــد مــــوســــى إنـــــــه يــــحــــاول مــــع عـــــدد مـن