Al Araby Al Jadeed

إعادة إعمار المدن المدّمرة وسؤال المصير

- سوسن جميل حسن

تــــوصـــ­ـف املـــــدن بـــأنـــه­ـــا «هـــيـــاك­ـــل مـــتـــطـ­ــورة»، فــمــا يـــبـــدو، فـــي أحـــيـــا­ن كـــثـــيـ­ــرة، اعـتـبـاطـ­يـًا ومصادفة، في صـورة املـدن بشكل عـام، هو فــي الــواقــع سلسلة مــن تـغـيـيـرا­ت كـانـت في وقــت إنشائها فــي منزلة تــدخــل هـــادف، أو ذي معنى، في الهياكل الحضرية القائمة، موجهة دومــًا نحو الـظـروف واالحتياجا­ت واإلمــــك­ــــانــــ­ات. واملـــديـ­ــنـــة لــيــســت مـتـجـانـس­ـة بـــاملـــ­طـــلـــق، هــــي خــلــيــط اجـــتـــم­ـــاعـــي، ثــقــافــ­ي، قانوني، تختلف درجــة تمايز عناصره أو شـدتـهـا، لـكـن هــذا الخليط سـاهـم تاريخيًا في رسـم هوية املدينة، والهوية الحضرية هــي مــا يـربـط الــنــاس بـمـكـان مــعــن، لكنها، مثل املـــدن، نــمــت ومــع نـمـوهـا كـانـت تتغير باستمرار، وليست ثابتة بأي حال، بل تتأثر باألحداث والتاريخ والزمن. فهل التصاميم والتخطيطات الـتـي سـتـعـد مـن أجــل إعــادة بناء املدن التي دمرتها الحرب في منطقتنا ستحمل رؤى وثقافة الجهات الضالعة في إعادة البناء واملمولة له؟ أم سيكون للسكان األصلين آراؤهــم وتصوراتهم بشأن صيغ مـدنـهـم الــتــي يــعــاد بــنــاؤهـ­ـا؟ تـفـيـد تـجـارب الـــتـــا­ريـــخ بـــــأن الــــحـــ­ـروب ال تــنــتــه­ــي قــبــل أن تـكـون قــد دمــــرت كـثـيـرًا مــن األحــيــا­ء واملـــدن، وشـــردت ساكنيها، وخلقت شـروطـًا أخـرى من أجـل إعمارها. في منتصف أربعينيات القرن املاضي، بعد صمت املدافع في الحرب العاملية الثانية، كـانـت مـــدن كـثـيـرة مـدمـرة بـــدرجـــ­ات مــتــفــا­وتــة، قـــد تــصــل فـــي بعضها إلــــى %90 فـــي دول أوروبــــي­ــــة عــــــدة، ومـنـهـا أملانيا، وكـان الناس مضطرين إلـى العيش فــي أمــاكــن إقــامــة طــارئــة، عـــرفـــت فــي أملانيا بـــأكـــو­اخ نـيـسـن، وبــعــد ذلــــك، انـطـلـقـت طفرة بناء حقيقية، وكـان الـسـؤال: كيف يمكن أن تكون املباني واملناطق السكنية واملـدن في املـسـتـقـ­بـل؟ ال يــهــم هـــذا الـــســـؤ­ال املهندسن واملــعــم­ــاريــن ومـخـطـطـي املــــدن فـحـسـب، بل السياسين واملواطنن أيضًا. وكـان هناك، دائــمــًا، أشـخـاص تقليديون يــريــدون إعــادة بناء املدن املدمرة بالشكل الذي كانت عليه، ودائــــمـ­ـــًا، هـــنـــاك دعـــــاة إلــــى أن تـــكـــون هــنــاك بــــدايــ­ــة جــــديـــ­ـدة تـــتـــجـ­ــاوز أخــــطـــ­ـاء املـــاضــ­ـي، وتــــــرا­عــــــي مـــتـــطـ­ــلـــبـــ­ات الــــعـــ­ـصــــر، وتـــحـــس­ـــب حساب املستقبل. الضوء، الهواء، مساحات للسيارات، مع شوارع واسعة من أجل حركة املــرور، مع مساحات خضراء. هذا ما ينظر إليه املتخصصون، وال بـد من اإلشــارة إلى أن معايير إضافية صار ال بد من مراعاتها اليوم، تتوافق مع ما يطلق عليه املدن الذكية. تــشــكــل املــديــن­ــة الـــوعـــ­ي والــثــقـ­ـافــة والـــهـــ­ويـــة. لذلك، يرتبط التوجه إلى املستقبل، أو النظر إلــيــه، بأسئلة تتعلق بــالــهــ­ويــة التاريخية للمدينة، وتطلع الساكنن إلـى ما ينسجم مــع ثقافتهم، عــاداتــه­ــم، تـقـالـيـد­هـم، وأنـــواع املــهــن والــنــشـ­ـاط االجــتــم­ــاعــي واالقــتــ­صــادي الشائع لديهم. لذلك، ال بـد من دراســة مدى تـأثـيـر املــشــار­يــع فــي الـــصـــو­رة املــضــمـ­ـرة في الـــــالو­عـــــي لـــلـــمـ­ــديـــنــ­ـة، فـــالـــه­ـــويـــة ال تــتــشــك­ــل وتنمو من الهندسة املعمارية وحـدهـا، بل الــهــويـ­ـة الـحـضـريـ­ة شـــيء لــه تـأثـيـر داخــلــي، أيـــضـــًا، يــربــط الـــنـــا­س بـمـديـنـت­ـهـم، وهــــذا ما يمكن تسميته جوهر املدينة، الذي يساهم الـــجـــم­ـــيـــع تـــاريـــ­خـــيـــًا فــــي تــشــكــي­ــلــه، ويــمــنــ­ح املدينة «سمعتها». واألشــخــ­اص هـم الذين يـطـورون ويطرحون فكرتهم عن مدينتهم، بـــاإلضــ­ـافـــة إلــــى تـشـكـيـل إجـــمـــا­ع اجـتـمـاعـ­ي مـعـن، حتى تتمكن الـــرؤى مـن التحقق في الــواقــع. ال تتعلق التغييرات املخطط لها، في حالة التطور الطبيعي للمدينة، وليس فـي الـنـهـوض مـن الــدمــار، دائــمــًا، بالوظيفة أو الـــنـــا­حـــيـــة الـــجـــم­ـــالـــيـ­ــة، فـــأحـــد الـــجـــو­انـــب األســــاس­ــــيــــة هــــو الــــهـــ­ـويــــة الـــتـــي يــســتــم­ــدهــا الـــســـك­ـــان مـــن مــديــنــ­تــهــم، ويــمــنــ­حــونــهــ­ا لها بدورهم، والشعور بالوطن ينطلق وينبني من الشعور باملدينة، ورمـوزهـا التاريخية مــهــمــة جـــــدًا، يـمـكـن أخــــذ حــريــق كــاتــدرا­ئــيــة نوتردام في باريس مثاال على هذا الشعور، فــهــي بــالــنــ­ســبــة إلــــى الــفــرنـ­ـســيــن تـــجـــاو­زت معناها ومكانتها الدينية، واحتلت مكانة أوسع وأشمل، صارت رمزًا وطنيًا بالنسبة إلى الفرنسين، تعني كل شرائح املجتمع، وليس املتدينن منهم فحسب. وتــشــمــ­ل الـتـنـمـي­ـة الــحــضــ­ريــة عـــــدة جــوانــب تــتــعــل­ــق بـجـمـيـع الــعــمــ­لــيــات داخـــــل الـفـضـاء الـــحـــض­ـــري. وبـــالـــ­تـــالـــي، تــشــمــل الــعــمــ­لــيــات املـــكـــ­انـــيـــة والــــديـ­ـــمــــغـ­ـــرافــــ­يــــة واالقــــت­ــــصــــا­ديــــة واالجتماعي­ة، وتأثيراتها في هيكل املدينة. لـــذلـــك، مـــن الـطـبـيـع­ـي الــحــديـ­ـث عـــن التنمية الـــحـــض­ـــريـــة فــــي ســـيـــاق­ـــات مــخــتــل­ــفــة، أولـــهـــ­ا الـسـيـاق الـتـاريـخ­ـي، أو املـنـظـور التاريخي. وثانيها، باعتبارها مسؤولية إدارة املدن، عـــلـــى أنــــهـــ­ـا مـــهـــمـ­ــة تــخــطــي­ــط، وأخـــــيـ­ــــرًا، هـي

مـبـدأ هـــادف ومــوجــه. وللتنمية الحضرية أبـعـاد ال بـد مـن مراعاتها أو االهتمام بها: الـبـعـد الهيكلي واملــكــا­نــي، الـــذي مــن خالله يظهر نمو املدينة، والبعد الوظيفي وكيف تـــســـتـ­ــخـــدم املــــســ­ــاحــــات الـــحـــض­ـــريـــة، فــضــال عـــن الــبــعــ­د االجـــتــ­ـمـــاعـــ­ي، الـــــذي يــتــجــل­ــى في الجوانب املتعددة لحياة املدينة، وهذا مهم جــــدًا أيــضــًا، خـصـوصـًا بـالـنـسـب­ـة إلـــى املــدن الـتـي فـــرض عليها تـاريـخـهـ­ا، أو حاضرها املستدام، أن تكون لها هوية خاصة تتعلق بــالــثــ­قــافــة الـــعـــا­مـــة واملــــــ­ـــوروث والـــضـــ­وابـــط االجتماعية، التي تؤثر في األغلبية، وتسهم في خلق الفضاء االجتماعي املتوافق عليه، هــذا مـا يمكن أخــذه فـي الحسبان بالنسبة إلــى املـــدن الـعـربـيـ­ة، الـتـي دمـرتـهـا الـحـروب، كاملدن السورية وقطاع غـزة. واستنادًا إلى هذا الواقع، ال بد من طرح سؤال إعادة بناء املدن العربية املدمرة. اتسمت منطقة الشرق األوسط خالل القرن املاضي (النصف الثاني منه بشكل خــاص، والعقدين األخيرين من الـقـرن الـحـالـي) بـتـواتـر الــحــروب الـتـي نجم عنها كثير مـن الـدمـار للهياكل الحضرية، والتغيير الديمغرافي، وتخلخل الهويات، خـصـوصـًا فــي ســوريــة فــي ســنــوات الـحـرب الحالية، وها هي اليوم غزة تتعرض ألكبر وأعنف موجة دمـار ونــزوح منذ النكبة في ،1948 بل لم تتوقف إسرائيل، منذ إعالنها، عـــن مــحــو مــعــالــ­م املـــــدن الــفــلــ­ســطــيــن­ــيــة، في محاولة ملحوها من الذاكرة الجمعية، ومن التاريخ. هذا ما يتكرر بإصرار في غزة، ففي كل حرب تدمر مساحات واسعة من مدنها وأحيائها، يعاد اإلعمار، فتأتي حرب جديدة وتدمر من جديد، والحرب الحالية أشرسها وأكثرها تدميرًا. وأمام هذا الواقع الكارثي، تطرح في البال أسئلة كثيرة عن إعمار املدن املـــدمــ­ـرة نـتـيـجـة الـــحـــر­وب، مـنـهـا الــســوري­ــة، ومنها غزة ومدن القطاع، هل يسأل األفراد أو املـجـتـمـ­ع عـــن الـكـيـفـي­ـة الــتــي يـــريـــد­ون أن يعيشوا فيها، أم يترك السؤال للمسؤولن واملخولن باإلدارة والسلطة الحاكمة، التي مـــا زالــــت مـبـهـمـة وغــيــر مـــحـــدد­ة، ومـرتـهـنـ­ة للتسويات والحلول السياسية؟ أليس من املنصف ســؤال املواطنن عن نـوع املجتمع الـــذي يــريــدون­ــه، ونـــوع الـحـيـاة الـتـي يرنون إليها؟ أم ليس هناك وقت لالنتظار، فالفقد كبير والــجــرو­ح كبيرة، وصـدمـة الـحـرب لن تــذهــب فــي وقـــت قـصـيـر، واإلعـــمـ­ــار وتـأمـن

مساحة عيش للناجن، وليس لديهم سقف يلوذون به، أمر ملح وال يحتمل التأجيل؟ مــــا شـــكـــل الــتــخــ­طــيــط الـــحـــض­ـــري، وهـــــل هـو مرهون بتطلعات (ومـزاج) الجهات املمولة وثقافتها ورؤيتها لشكل املدن املستقبلية، مـــــن دون مــــــراع­ــــــاة احــــتـــ­ـيــــاجــ­ــات الــــســـ­ـكــــان األصـلـيـن وتــصــوره­ــم عــن مـدنـهـم؟ إذا كان لـــــدى املــــــد­ن املـــــدم­ـــــرة بـــعـــد الــــحـــ­ـرب الــعــامل­ــيــة الثانية، في أوروبــا مثال، فرصة أن تصبح مدن املستقبل، فهل ينطبق هذا على قطاع غزة، الذي يعد، مساحة، مثل مدينة صغيرة مـــن تــلــك املــــــد­ن؟ هـــل يــمــكــن أن تــصــبــح غـــزة

مدينة مستقبلية، وهــي مرهونة للحروب والـــتـــ­دمـــيـــر بــشــكــل دائـــــــ­م، وبـــــن كـــــل حــربــن حـــصـــار يــمــنــع كــثــيــرًا مـــن املــــــو­اد واألدوات الـعـصـريـ­ة عــن الــنــاس فـيـهـا، فيقضي على قدرتهم على االبتكار؟ بل هل ستكون هناك مدن مستدامة انطالقًا من واقعها «الحربي» بــاســتــ­مــرار؟ وهـــل يـمـكـن، فــي الــوقــت نفسه، الـحـديـث عــن مـــدن مستقبلية عـلـى أنـقـاض املدن السورية التي دمرتها الحرب وأحدثت فيها تغييرًا ديمغرافيًا؟ من املهم إزالة األنقاض بسرعة، والشروع في إعادة بناء املدن، لحماية ما تبقى من حياة للمهجرين مـن بيوتهم ومدنهم، يعيشون في املخيمات في ظروف غير إنسانية، وفي دول الــلــجــ­وء الــتــي ال يـــقـــدم بعضها فـرص عيش طبيعية وكريمة لهم، خصوصًا في دول الــجــوار. هــذا فـي سـوريـة، أمــا فـي غــزة، املدينة الضاربة في التاريخ، فللوضع دائمًا خصوصيته، ما دامت مدينة مفتوحة على الحروب باستمرار، فكيف يمكن الحديث عن مدينة مستقبلية في وضع كهذا؟... تتعلق املــديــن­ــة املــســتـ­ـدامــة بــاملــصـ­ـيــر، ومــــا لـــم يكن هناك حـل للقضية الفلسطينية، التي تعد مشكلة كبيرة بالنسبة إلــى الـعـالـم، يـحـدد مــن خـاللـه مصير الشعب الفلسطيني، لن يكون هناك مدن مستدامة. وبالتالي، تكون األسئلة بشأن من يبني، وعلى أي أسـاس، ومـــا هــويــة املـــدن املـبـنـيـ­ة، ومـــا دور الثقافة املــجــتـ­ـمــعــيــ­ة، ومــــا خــصــائــ­ص الــجــيــ­ل الـــذي يـبـنـي، فيما لــو تـــرك للمجتمع وأفـــــرا­ده أن يكون لهم الدور املؤثر في تصور مدينتهم؟ أسئلة من الواجب طرحها وعـدم تأجيلها. أســئــلــ­ة كــثــيــر­ة مـرتـهـنـة لــحــل قـضـيـة شـعـب عريق، يقتل بشتى الطرائق، ويبقى متشبثًا باملكان، بأرضه التاريخية، بمدنه العريقة. ويــنــطــ­بــق األمـــــر ذاتـــــه عــلــى املـــــدن الــســوري­ــة املـــدمــ­ـرة، فمصيرها مـرتـهـن بشكل سـوريـة بعد الحرب، وبعد الحل السياسي، فيما لو كــان هناك حــل سياسي، فالسلطة املخولة بــــــإدا­رة املـــكـــ­ان، أي مــكــان مـــأهـــو­ل بمجتمع بـــشـــري، تـتـحـمـل مــســؤولـ­ـيــة كــبــرى فـــي هــذا املجال، مسؤولية البناء وفق ما يجمع عليه املواطنون، وهذا ما يزيد من كتامة األسئلة، ما دامت هذه السلطات املنتظرة هي نتيجة للحلول، ومتعلقة باملصير املنتظر من وراء هذه الحلول.

تشكل المدينة الوعي والثقافة والهوية، لذلك، يرتبط التوجه إلى المستقبل، أو النظر إليه، بأسئلة تتعلّق بالهوية التاريخية للمدينة

هل يسأل األفراد أو المجتمع عن الكيفية التي يريدون أن يعيشوا فيها، أم يترك السؤال للسلطة المبهمة المرتهنة للحلول السياسية؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar