إعادة إعمار المدن المدّمرة وسؤال المصير
تــــوصــــف املـــــدن بـــأنـــهـــا «هـــيـــاكـــل مـــتـــطـــورة»، فــمــا يـــبـــدو، فـــي أحـــيـــان كـــثـــيـــرة، اعـتـبـاطـيـًا ومصادفة، في صـورة املـدن بشكل عـام، هو فــي الــواقــع سلسلة مــن تـغـيـيـرات كـانـت في وقــت إنشائها فــي منزلة تــدخــل هـــادف، أو ذي معنى، في الهياكل الحضرية القائمة، موجهة دومــًا نحو الـظـروف واالحتياجات واإلمــــكــــانــــات. واملـــديـــنـــة لــيــســت مـتـجـانـسـة بـــاملـــطـــلـــق، هــــي خــلــيــط اجـــتـــمـــاعـــي، ثــقــافــي، قانوني، تختلف درجــة تمايز عناصره أو شـدتـهـا، لـكـن هــذا الخليط سـاهـم تاريخيًا في رسـم هوية املدينة، والهوية الحضرية هــي مــا يـربـط الــنــاس بـمـكـان مــعــن، لكنها، مثل املـــدن، نــمــت ومــع نـمـوهـا كـانـت تتغير باستمرار، وليست ثابتة بأي حال، بل تتأثر باألحداث والتاريخ والزمن. فهل التصاميم والتخطيطات الـتـي سـتـعـد مـن أجــل إعــادة بناء املدن التي دمرتها الحرب في منطقتنا ستحمل رؤى وثقافة الجهات الضالعة في إعادة البناء واملمولة له؟ أم سيكون للسكان األصلين آراؤهــم وتصوراتهم بشأن صيغ مـدنـهـم الــتــي يــعــاد بــنــاؤهــا؟ تـفـيـد تـجـارب الـــتـــاريـــخ بـــــأن الــــحــــروب ال تــنــتــهــي قــبــل أن تـكـون قــد دمــــرت كـثـيـرًا مــن األحــيــاء واملـــدن، وشـــردت ساكنيها، وخلقت شـروطـًا أخـرى من أجـل إعمارها. في منتصف أربعينيات القرن املاضي، بعد صمت املدافع في الحرب العاملية الثانية، كـانـت مـــدن كـثـيـرة مـدمـرة بـــدرجـــات مــتــفــاوتــة، قـــد تــصــل فـــي بعضها إلــــى %90 فـــي دول أوروبــــيــــة عــــــدة، ومـنـهـا أملانيا، وكـان الناس مضطرين إلـى العيش فــي أمــاكــن إقــامــة طــارئــة، عـــرفـــت فــي أملانيا بـــأكـــواخ نـيـسـن، وبــعــد ذلــــك، انـطـلـقـت طفرة بناء حقيقية، وكـان الـسـؤال: كيف يمكن أن تكون املباني واملناطق السكنية واملـدن في املـسـتـقـبـل؟ ال يــهــم هـــذا الـــســـؤال املهندسن واملــعــمــاريــن ومـخـطـطـي املــــدن فـحـسـب، بل السياسين واملواطنن أيضًا. وكـان هناك، دائــمــًا، أشـخـاص تقليديون يــريــدون إعــادة بناء املدن املدمرة بالشكل الذي كانت عليه، ودائــــمــــًا، هـــنـــاك دعـــــاة إلــــى أن تـــكـــون هــنــاك بــــدايــــة جــــديــــدة تـــتـــجـــاوز أخــــطــــاء املـــاضـــي، وتــــــراعــــــي مـــتـــطـــلـــبـــات الــــعــــصــــر، وتـــحـــســـب حساب املستقبل. الضوء، الهواء، مساحات للسيارات، مع شوارع واسعة من أجل حركة املــرور، مع مساحات خضراء. هذا ما ينظر إليه املتخصصون، وال بـد من اإلشــارة إلى أن معايير إضافية صار ال بد من مراعاتها اليوم، تتوافق مع ما يطلق عليه املدن الذكية. تــشــكــل املــديــنــة الـــوعـــي والــثــقــافــة والـــهـــويـــة. لذلك، يرتبط التوجه إلى املستقبل، أو النظر إلــيــه، بأسئلة تتعلق بــالــهــويــة التاريخية للمدينة، وتطلع الساكنن إلـى ما ينسجم مــع ثقافتهم، عــاداتــهــم، تـقـالـيـدهـم، وأنـــواع املــهــن والــنــشــاط االجــتــمــاعــي واالقــتــصــادي الشائع لديهم. لذلك، ال بـد من دراســة مدى تـأثـيـر املــشــاريــع فــي الـــصـــورة املــضــمــرة في الـــــالوعـــــي لـــلـــمـــديـــنـــة، فـــالـــهـــويـــة ال تــتــشــكــل وتنمو من الهندسة املعمارية وحـدهـا، بل الــهــويــة الـحـضـريـة شـــيء لــه تـأثـيـر داخــلــي، أيـــضـــًا، يــربــط الـــنـــاس بـمـديـنـتـهـم، وهــــذا ما يمكن تسميته جوهر املدينة، الذي يساهم الـــجـــمـــيـــع تـــاريـــخـــيـــًا فــــي تــشــكــيــلــه، ويــمــنــح املدينة «سمعتها». واألشــخــاص هـم الذين يـطـورون ويطرحون فكرتهم عن مدينتهم، بـــاإلضـــافـــة إلــــى تـشـكـيـل إجـــمـــاع اجـتـمـاعـي مـعـن، حتى تتمكن الـــرؤى مـن التحقق في الــواقــع. ال تتعلق التغييرات املخطط لها، في حالة التطور الطبيعي للمدينة، وليس فـي الـنـهـوض مـن الــدمــار، دائــمــًا، بالوظيفة أو الـــنـــاحـــيـــة الـــجـــمـــالـــيـــة، فـــأحـــد الـــجـــوانـــب األســــاســــيــــة هــــو الــــهــــويــــة الـــتـــي يــســتــمــدهــا الـــســـكـــان مـــن مــديــنــتــهــم، ويــمــنــحــونــهــا لها بدورهم، والشعور بالوطن ينطلق وينبني من الشعور باملدينة، ورمـوزهـا التاريخية مــهــمــة جـــــدًا، يـمـكـن أخــــذ حــريــق كــاتــدرائــيــة نوتردام في باريس مثاال على هذا الشعور، فــهــي بــالــنــســبــة إلــــى الــفــرنــســيــن تـــجـــاوزت معناها ومكانتها الدينية، واحتلت مكانة أوسع وأشمل، صارت رمزًا وطنيًا بالنسبة إلى الفرنسين، تعني كل شرائح املجتمع، وليس املتدينن منهم فحسب. وتــشــمــل الـتـنـمـيـة الــحــضــريــة عـــــدة جــوانــب تــتــعــلــق بـجـمـيـع الــعــمــلــيــات داخـــــل الـفـضـاء الـــحـــضـــري. وبـــالـــتـــالـــي، تــشــمــل الــعــمــلــيــات املـــكـــانـــيـــة والــــديــــمــــغــــرافــــيــــة واالقــــتــــصــــاديــــة واالجتماعية، وتأثيراتها في هيكل املدينة. لـــذلـــك، مـــن الـطـبـيـعـي الــحــديــث عـــن التنمية الـــحـــضـــريـــة فــــي ســـيـــاقـــات مــخــتــلــفــة، أولـــهـــا الـسـيـاق الـتـاريـخـي، أو املـنـظـور التاريخي. وثانيها، باعتبارها مسؤولية إدارة املدن، عـــلـــى أنــــهــــا مـــهـــمـــة تــخــطــيــط، وأخـــــيـــــرًا، هـي
مـبـدأ هـــادف ومــوجــه. وللتنمية الحضرية أبـعـاد ال بـد مـن مراعاتها أو االهتمام بها: الـبـعـد الهيكلي واملــكــانــي، الـــذي مــن خالله يظهر نمو املدينة، والبعد الوظيفي وكيف تـــســـتـــخـــدم املــــســــاحــــات الـــحـــضـــريـــة، فــضــال عـــن الــبــعــد االجـــتـــمـــاعـــي، الـــــذي يــتــجــلــى في الجوانب املتعددة لحياة املدينة، وهذا مهم جــــدًا أيــضــًا، خـصـوصـًا بـالـنـسـبـة إلـــى املــدن الـتـي فـــرض عليها تـاريـخـهـا، أو حاضرها املستدام، أن تكون لها هوية خاصة تتعلق بــالــثــقــافــة الـــعـــامـــة واملـــــــــوروث والـــضـــوابـــط االجتماعية، التي تؤثر في األغلبية، وتسهم في خلق الفضاء االجتماعي املتوافق عليه، هــذا مـا يمكن أخــذه فـي الحسبان بالنسبة إلــى املـــدن الـعـربـيـة، الـتـي دمـرتـهـا الـحـروب، كاملدن السورية وقطاع غـزة. واستنادًا إلى هذا الواقع، ال بد من طرح سؤال إعادة بناء املدن العربية املدمرة. اتسمت منطقة الشرق األوسط خالل القرن املاضي (النصف الثاني منه بشكل خــاص، والعقدين األخيرين من الـقـرن الـحـالـي) بـتـواتـر الــحــروب الـتـي نجم عنها كثير مـن الـدمـار للهياكل الحضرية، والتغيير الديمغرافي، وتخلخل الهويات، خـصـوصـًا فــي ســوريــة فــي ســنــوات الـحـرب الحالية، وها هي اليوم غزة تتعرض ألكبر وأعنف موجة دمـار ونــزوح منذ النكبة في ،1948 بل لم تتوقف إسرائيل، منذ إعالنها، عـــن مــحــو مــعــالــم املـــــدن الــفــلــســطــيــنــيــة، في محاولة ملحوها من الذاكرة الجمعية، ومن التاريخ. هذا ما يتكرر بإصرار في غزة، ففي كل حرب تدمر مساحات واسعة من مدنها وأحيائها، يعاد اإلعمار، فتأتي حرب جديدة وتدمر من جديد، والحرب الحالية أشرسها وأكثرها تدميرًا. وأمام هذا الواقع الكارثي، تطرح في البال أسئلة كثيرة عن إعمار املدن املـــدمـــرة نـتـيـجـة الـــحـــروب، مـنـهـا الــســوريــة، ومنها غزة ومدن القطاع، هل يسأل األفراد أو املـجـتـمـع عـــن الـكـيـفـيـة الــتــي يـــريـــدون أن يعيشوا فيها، أم يترك السؤال للمسؤولن واملخولن باإلدارة والسلطة الحاكمة، التي مـــا زالــــت مـبـهـمـة وغــيــر مـــحـــددة، ومـرتـهـنـة للتسويات والحلول السياسية؟ أليس من املنصف ســؤال املواطنن عن نـوع املجتمع الـــذي يــريــدونــه، ونـــوع الـحـيـاة الـتـي يرنون إليها؟ أم ليس هناك وقت لالنتظار، فالفقد كبير والــجــروح كبيرة، وصـدمـة الـحـرب لن تــذهــب فــي وقـــت قـصـيـر، واإلعـــمـــار وتـأمـن
مساحة عيش للناجن، وليس لديهم سقف يلوذون به، أمر ملح وال يحتمل التأجيل؟ مــــا شـــكـــل الــتــخــطــيــط الـــحـــضـــري، وهـــــل هـو مرهون بتطلعات (ومـزاج) الجهات املمولة وثقافتها ورؤيتها لشكل املدن املستقبلية، مـــــن دون مــــــراعــــــاة احــــتــــيــــاجــــات الــــســــكــــان األصـلـيـن وتــصــورهــم عــن مـدنـهـم؟ إذا كان لـــــدى املــــــدن املـــــدمـــــرة بـــعـــد الــــحــــرب الــعــاملــيــة الثانية، في أوروبــا مثال، فرصة أن تصبح مدن املستقبل، فهل ينطبق هذا على قطاع غزة، الذي يعد، مساحة، مثل مدينة صغيرة مـــن تــلــك املــــــدن؟ هـــل يــمــكــن أن تــصــبــح غـــزة
مدينة مستقبلية، وهــي مرهونة للحروب والـــتـــدمـــيـــر بــشــكــل دائـــــــم، وبـــــن كـــــل حــربــن حـــصـــار يــمــنــع كــثــيــرًا مـــن املــــــواد واألدوات الـعـصـريـة عــن الــنــاس فـيـهـا، فيقضي على قدرتهم على االبتكار؟ بل هل ستكون هناك مدن مستدامة انطالقًا من واقعها «الحربي» بــاســتــمــرار؟ وهـــل يـمـكـن، فــي الــوقــت نفسه، الـحـديـث عــن مـــدن مستقبلية عـلـى أنـقـاض املدن السورية التي دمرتها الحرب وأحدثت فيها تغييرًا ديمغرافيًا؟ من املهم إزالة األنقاض بسرعة، والشروع في إعادة بناء املدن، لحماية ما تبقى من حياة للمهجرين مـن بيوتهم ومدنهم، يعيشون في املخيمات في ظروف غير إنسانية، وفي دول الــلــجــوء الــتــي ال يـــقـــدم بعضها فـرص عيش طبيعية وكريمة لهم، خصوصًا في دول الــجــوار. هــذا فـي سـوريـة، أمــا فـي غــزة، املدينة الضاربة في التاريخ، فللوضع دائمًا خصوصيته، ما دامت مدينة مفتوحة على الحروب باستمرار، فكيف يمكن الحديث عن مدينة مستقبلية في وضع كهذا؟... تتعلق املــديــنــة املــســتــدامــة بــاملــصــيــر، ومــــا لـــم يكن هناك حـل للقضية الفلسطينية، التي تعد مشكلة كبيرة بالنسبة إلــى الـعـالـم، يـحـدد مــن خـاللـه مصير الشعب الفلسطيني، لن يكون هناك مدن مستدامة. وبالتالي، تكون األسئلة بشأن من يبني، وعلى أي أسـاس، ومـــا هــويــة املـــدن املـبـنـيـة، ومـــا دور الثقافة املــجــتــمــعــيــة، ومــــا خــصــائــص الــجــيــل الـــذي يـبـنـي، فيما لــو تـــرك للمجتمع وأفـــــراده أن يكون لهم الدور املؤثر في تصور مدينتهم؟ أسئلة من الواجب طرحها وعـدم تأجيلها. أســئــلــة كــثــيــرة مـرتـهـنـة لــحــل قـضـيـة شـعـب عريق، يقتل بشتى الطرائق، ويبقى متشبثًا باملكان، بأرضه التاريخية، بمدنه العريقة. ويــنــطــبــق األمـــــر ذاتـــــه عــلــى املـــــدن الــســوريــة املـــدمـــرة، فمصيرها مـرتـهـن بشكل سـوريـة بعد الحرب، وبعد الحل السياسي، فيما لو كــان هناك حــل سياسي، فالسلطة املخولة بــــــإدارة املـــكـــان، أي مــكــان مـــأهـــول بمجتمع بـــشـــري، تـتـحـمـل مــســؤولــيــة كــبــرى فـــي هــذا املجال، مسؤولية البناء وفق ما يجمع عليه املواطنون، وهذا ما يزيد من كتامة األسئلة، ما دامت هذه السلطات املنتظرة هي نتيجة للحلول، ومتعلقة باملصير املنتظر من وراء هذه الحلول.
تشكل المدينة الوعي والثقافة والهوية، لذلك، يرتبط التوجه إلى المستقبل، أو النظر إليه، بأسئلة تتعلّق بالهوية التاريخية للمدينة
هل يسأل األفراد أو المجتمع عن الكيفية التي يريدون أن يعيشوا فيها، أم يترك السؤال للسلطة المبهمة المرتهنة للحلول السياسية؟