Al Araby Al Jadeed

سنّة الحياة الجائرة

- بسمة النسور

قال املمثل األميركي كلينت إيستوود 95( عامًا) في كلمة ألقاها وسط حشد من محبيه: «مرعب هو التقدم في العمر، أليس كذلك؟ ها أنتم ترون كل شيء بأعينكم، عظامًا ال تـتـحـرك بليونة، ونـظـر العينني الضعيف الـــذي يـرهـقـه الــضــوء، والرئتني تلتقطان األنفاس بصعوبة، لكن املرعب واملتعب أكثر حني تبلغ هذا العمر وال تجد أحـــدًا مـمـن تحبهم بقربك يستمع بـتـذمـر إلــى قصص تـاريـخـك املـلـيء بالبطوالت الوهمية. مرعب أن تكون وحدك بعد أن كان الجميع يلهث وراءك. وأخيرًا، بعد قضاء عمرك باحثًا عن الضوء، لم تفز بعائلة حقيقية، وتعني عليك أن تعيش في الظالم، في عـز احتياجك ليد تـدلـك على الـضـوء. عليكم االهتمام بتكوين أســرة، بالدرجة األولـى، فالجري خلف الشهرة كالرماد الذي نفخت فيه الرياح، فال هو أشعل نارًا، وال هو ظل ثابتًا في مكانه». ورغم البحث، لم أتمكن من التحقق من املناسبة التي قال فيها إيستوود هذه الكلمة املؤثرة، التي انتشرت على نطاق واسع في أكثر من موقع إخباري. أيًا كان األمر، تبعث الكلمة، بغض النظر عن املناسبة التي قيلت فيها، على الحزن والرعب في آن واحد. وهنا، أتذكر إجابة العالمة والناقد الراحل إحسان عباس عن سؤال بشأن املوت، إنه «تجربة مريحة، أما املخيف حقًا فهي الشيخوخة، حيث خيبة األمل». وفي تأمل ملسيرة إيستوود، الطويلة والثرية واملتنوعة، وقد حاز جائزة أوسكار أربع مرات، وغيرها الكثير من جوائز عاملية وأوسمة رفيعة، وأجمع النقاد على وصفه باألسطورة السينمائية الحية، ممثال ومخرجًا ومنتجًا ومؤلفًا موسيقيًا، يمكن القول إنه حاز كل ما يتمنى وأكثر، فحقق املجد والثراء والشهرة. وعلى الصعيد الشخصي، كان إيستوود «دون جوان» خطيرًا، وقعت النساء دائمًا في غرامه، وارتبط في عالقات عاطفية عـدة بممثالت شهيرات آلت إلى فشل، إلى أن وصل في نهاية املطاف مخذوال إلى ما نطلق عليه «أرذل العمر»، حيث الكهولة واملرض والوحدة والخيبة واإلحساس بالخواء والالجدوى. وصل به الحال تمامًا كما ردد عبد الحليم في رائعته «زي الهوى» في تالعب ذكي باملعاني: «وتريني.. ماسك الهوى بإديا... وآه من الهوى يا حبيبي». حقًا، يستدعي األمر آهة كبيرة على مصير محتوم يتربص بنا جميعًا، بغض النظر عن منجزنا في هـذه الحياة العابرة الزائلة. ينصح إيستوود مستمعيه بالتركيز على العائلة، والكف عن اللهاث خلف أضواء الشهرة ألنها محض وهم .)!( والسؤال هنا: هل سيمتثل أي منا لنصائح من سبقونا؟... األرجح أننا لن نفعل، فال أحد منا يتخذ مواقفه في الحياة بناء على تجارب اآلخرين. قديمًا قالوا: «النصيحة بجمل»،

ُّ في داللة على أهميتها، و«أسأل مجرب وال تسأل حكيم»، غير أنها مقوالت تفتقر إلى الدقة، فالواحد منا ال يتعلم إال من تجاربه، ويظل مرتابًا في أراء اآلخرين مهما بدت سديدة. لذلك، عزيزي الكهل الفضولي، املثقل بالحزن وبالندم وبالفراغ، ال تتعب نفسك، يا صديقي، وال تنشغل بإسداء النصائح، وسرد الحكايات التي ال يكترث بها أحــد، وكـــف عـن الحديث عـن إنـجـازاتـ­ك العظيمة السابقة، ألنـهـا ال تعني شيئًا للشباب املنهمكني فـي ذواتــهــم. دعهم يخوضون الـتـجـارب؛ يخطئون ويصيبون، ويختالون بمنجزاتهم، بعيدًا عن وصايتك التي ال ّيرغبون فيها. حاول التصالح مع مرحلتك العمرية، على قساوتها، باعتبارها حتمية ال مناص من مواجهتها، وكن على يقني من أن أولئك الشباب املفتونني بيفاعتهم سيأتي عليهم يوم يبلغون (إذا كانوا محظوظني) فيه مرحلة الكهولة، ولن يتوانوا، بدورهم، عن إسداء النصائح التي لن يصغي إليها أحد، فتلك سنة الحياة الجائرة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar