لماذا أصبح الدوالر مقياس القيمة في مصر ومخزنها؟
أصبحت إحـــدى الــنــوادر الـرائـجـة حــول ارتـفـاعـات األســعــار في مصر مؤخرًا، أنه كلما سأل مستهلك أحد التجار، حتى لو كان مجرد بائع جائل بسيط يبيع سلعًا محلية بدائية، عـن سبب رفعه املتتالي واملتسارع لألسعار، قال األخير إن «الفيدرالي رفع الـفـايـدة»، ليتساءل املستهلك فـي عجب عـن عالقة سعر كيلو برتقال عـم محمود وربـطـة جرجير الحجة راويـــة فـي مجاهل الدلتا املصرية وأعمق قراها النائية بقرارات الفيدرالي األميركي، بل كيف عرفوا به أساسًا! وتـتـمـحـور اإلجـــابـــة الـسـريـعـة الــتــي تـغـلـق طــريــق الـفـهـم األعـمـق للمسألة حـول التأثير االقـتـصـادي األميركي وهيمنته النقدية العاملية املتمركزة في الدور العاملي للدوالر وما شابه من أسباب في ذلك املستوى النقدي، مما يبدو أسبابًا عامة عاملية، خارجية الــطــابــع، ال تتصل بـــأي خصوصية مـصـريـة، وال تملك مصر حيالها قدرة وال تأثيرًا. لكن الواقع أن هناك أسبابًا أخـرى أعمق، محلية األصــل، تعمق مـــن هـــذا الــتــغــول الــــــدوالري عـلـى الـــواقـــع الــنــقــدي املـــصـــري؛ حـد تـحـولـه إلـــى مـقـيـاس القيمة ومـخـزنـهـا بـكـامـل االقــتــصــاد، ليس في الشهور والسنوات األخـيـرة فقط (عندما ظهر ذلـك التغول بفجاجة ساحقة مـع اتجاهات دولـــرة صريحة رافـقـت موجات الهبوط املتسارعة في سعر صرف الجنيه واستفحال التضخم وتـفـشـي الـسـوق الــســوداء ..إلــــخ)، بـل ظهر منذ زمــن طـويـل في الحقيقة، لكن كان االستقرار والوفرة النسبيان وانخفاض حدة الضغط االقتصادي والنقدي يخفيان ذلك التغول وما يتضمنه من حقيقة واقع الجنيه املصري عملة منقوصة السيادة النقدية، تــؤدي وظيفة واحــدة فعليًا من الوظائف التقليدية للنقود، هي وظيفة «وسيط التبادل» فقط، في حني ينتهك الدوالر الوظيفتني األهـم بعدها بدرجة أو بأخرى، وهما وظيفتا «مقياس القيمة» و»مخزن القيمة». يعني ذلك، قبل أن نتطرق إلى الجذور املحلية لهذه الحالة، أن هذا التغول الدوالري على الوجه النقدي لالقتصاد املصري ليس قدرًا سماويًا وال قانونًا فيزيائيًا، وال جزءًا حتميًا من النظام الدولي، مما يخرج عن قدرة أي دولة على مجابهته، بل هو، في أغلبه، نتاج واقع اقتصادي داخلي يمكن، تدريجيًا وعلى األقل، التخفيف من حدته وحصره في نطاقات أضيق، حتى وإن كان ذلك الـدوالر مدعومًا بمنظمات دولية وعالقات دبلوماسية، وفي الشكل الفج األخير، بالطائرات والبارجات األميركية الرابضة حـول حقول النفط والغاز وعلى مفاصل خطوط التجارة واملالحة الدولية. وأول األسـبـاب، والـجـذر األسـاسـي للحالة املصرية، هو التبعية االقتصادية بأشمل معانيها، والتي تتجسد في أعمق مستوياتها في اعتماد التجديد االجتماعي لإلنتاج أو إعادة إنتاج االقتصاد بمجمله على الــخــارج، ممثلة فـي حـاجـة االقـتـصـاد الثابتة إلى استيراد رأس املال والتكنولوجيا من الخارج لضمان استمرار اإلنـــتـــاج فــي كــل قـطـاعـاتـه بــال اسـتـثـنـاء؛ لـعـجـزه عــن إنتاجهما محليًا؛ نتيجة لغياب قطاع السلع الرأسمالية أو ما يعرف باآلالت األمهات، وبطبيعة الحال، لعدم وجود قدرات تكنولوجية مستقلة من األساس. تجعل هـذه التبعية االقتصاد مقيدا تقنيًا وإنتاجيًا ومرتبطًا تكاليفيًا وســعــريــًا، بـهـيـاكـل إنــتــاج الـــخـــارج املـتـعـامـل بــالــدوالر عمومًا، ولدول إنتاج هذه السلع الرأسمالية وما يتصل بها من مستلزمات إنتاج خصوصًا، وهو االرتباط السعري الذي يزيد طرديًا بقدر اعتماد العمليات اإلنتاجية املحلية على العمليات اإلنتاجية الخارجية، خصوصًا مـع مـا يرتبه كذلك مـن حاجة حتمية إلى توفير الـدوالر عمومًا للحصول على هذه املنتجات؛ مـا يفرض هيمنته على أغلب معامالت االسـتـيـراد والتصدير األخرى، فضال عن محفظة النقد األجنبي الوطنية عمومًا. يمثل هذا اإلطار الكيفي األساسي لإلشكالية، فكلما كانت البنية الصناعية ببلد ما أكثر تخلفًا، أي أقل عمقًا صناعيًا، وأقرب إلى املستوى االستهالكي الخفيف كما هو الحال في مصر كونها بلدًا ال يـزال شبه صناعي؛ كان التغول الخارجي على السيادة الـنـقـديـة الـوطـنـيـة أكــثــر احـتـمـالـيـة وســهــولــة، فــضــال عــن العجز الـخـارجـي املــزمــن والـتـدهـور املستمر فـي قيمة العملة الوطنية (باستثناء البلدان الغنية باملوارد بوصفها حالة خاصة)؛ ولهذا عادة ما تعجز النقود في بلدان األطراف التابعة عمومًا عن القيام بكل وظائفها شأن نظيرتها باملراكز الرأسمالية املتقدمة، األمر الذي زاد صعوبة وتعقيدًا، حتى على األخيرة األفضل حاال، في ظل اتساع العوملة املالية وحرية حركة رؤوس األموال عامليًا. وجــه آخــر مـن وجــوه التجديد االجتماعي لإلنتاج هـو التجديد االجـتـمـاعـي لـقـوة الـعـمـل، أي مـصـدر تـوفـيـر املـنـتـجـات الغذائية الــضــروريــة وطـريـقـتـهـا إلعــالــة إنــتــاج الــقــوة الـعـامـلـة وإعــادتــهــا، مجسدة في سلة السلع األجرية، والتي كلما زاد االعتماد على الــخــارج فـي توفير قــدر منها، أي كلما زادت الـفـجـوة الغذائية؛ زاد اعتماد تجديد قـوة العمل على الـخـارج، وزاد معه االرتباط الـتـكـالـيـفـي والــســعــري بـــه؛ بـمـا يـعـنـي اعــتــمــاد جـــزء معتبر من الدخول الحقيقية للمواطنني وتـأثـره، املـوجـه تحديدًا إلـى الغذاء والــــــدواء األســـاســـي، عـلـى سـلـع مــســتــوردة مــن الـــخـــارج مـقـومـة بــالــدوالر؛ مـا ينقل كـل التفاعالت والتقلبات الخاصة باألخير إلى دخول املواطنني، وتمركزه ضمنها معيارًا نقديًا ملستوياتها الحقيقية؛ ومن ثم انتقالها إلى كامل هيكل األسعار املحلي عبر قناة تحديدّ األجور، ومنها إلى كامل هيكل الدخول. وهذا ما يفسر جزءًا من دوافع عم محمود والحجة راوية سالفي الــذكــر لـــزيـــادة أســعــار منتجاتهما وخـدمـاتـهـمـا املـحـلـيـة تمامًا بالتوازي مع ارتفاع الدوالر ورفع الفيدرالي للفائدة، من دون أي حاجة منهما إلى متابعة أي من ذلك أو فهمه، بل بمجرد التكيف واالســتــجــابــة لـتـغـيـرات األســعــار املحلية املــتــأثــرة بـهـمـا، بهدف الحفاظ مثلهم مثل غيرهم على دخولهم الحقيقية. كما أن الـخـالصـة األسـاسـيـة هـنـا، كما يظهر فـي كـل األسـبـاب املـذكـورة، أن حل معضلة مصر االقتصادية ال يمكن أن يكون نـقـديـًا أو مـالـيـًا بــاألســاس كـمـا يتجلى فــي مـمـارسـة الحكومة الفعلية، بغض النظر عن رطاناتها الخطابية التي ال تنتهي عن اإلنتاج، بل إن حل املشكلة النقدية نفسها ليس نقديًا في جوهره!