الُّسودان: دبلوماسية الّصمت خيرٌ من دبلوماسية االنفعال
)1(
ضـــاعـــفـــت املــــواجــــهــــات الـــعـــســـكـــريـــة، وقــتــل املدنيني بصورة متواترة، ّتقليـص فـرِص أداء فاعل للدبلوماسـية السودانية مقابل تــصــاعــد األداء الــعــســكــري املـــدمـــــــر لـلـــبـاد. يـكـفـــي أن نــــرى الــقـــــنـــــوات الــفــضــائــيــة تـبـث تــهــافـــــتــا دبـــلـــومـــاســـيـــا، مــــا كـــــان ســـيـــحـــدث، وال يتوقع أن يصل إلـى ما وصـل إليه، ما شهدناه في جلسة ملجلس األمن أخيرًا، عن الحــرب في الـســـودان، بني ممثلي دولتيـن عـربـيـتـني، هـــمـا الـــســـودان واإلمـــــــارات. لعل أولـــى املــاحــظــات هـنـا تتصل باستعجال الــــطــــرف الــــــذي ســــــارع بـــرفـــع الــــخــــاف بـني الـطـرفـني إلــى مجلس األمـــن، للنظر فــي ما اشتكى منه الــطــرف الــســودانــي مــن تدخل لإلمارات لصب الزيت على نار الحرب في الــــســــودان. الـعـجـلـة هـــي مـــا مــثــلــت تــجــاوزًا مـــن الــدبــلــومــاســيــة الــســودانــيــة للمنصات اإلقليمية املتاحة لرفع مثل تلك الشكوى إليها، وأولها جامعة الدول العربية. وثاني املاحظات ما مثلته تجاوزات الدبلوماسية السودانية في عدم صبرها على الوسائل الدبلوماسية الثنائـية التي تتيح للبلدين مستويات عـــديـدة مـن التعامل الحصيف الجاد. كان من املمكن احتواء تلك الخافات عـــبـــرهـــا، خـــصـــوصـــا ملــــا بــــني بـــلـــديـــن لـهـمـا مــن عــاقــات األخـــوة الثنائية والتاريخية العميقة، لـو تـم استصحابها وتفعيلها، ملـــا كــانــت ثــمــة ضـــــرورة لــرفــع الـــخـــاف إلـى منصات جامعة الـدول العربية، فضا عن أن يصل إلى األمم املتحدة ومجلس أمنها.
)2(
لــــعــــل اســـتـــعـــجـــال حـــكـــومـــة األمــــــــر الــــواقــــع الـسـودانـيـة تصعيد شـكـواهـا إلــى مجلس األمن ضد تشاد لتدخلها في حرب السودان، وهـــي دولـــة تـقـاسـم الـــســـودان حــــدودًا تبلغ آالف الكيلومترات لـم يكن متوقعا. لربما كـــان مــن املـمـكـن معالجة أمـــر ذلـــك الـخـاف واحتوائه لو أتيح للدبلوماسية الثنائية بني البلدين أن تقوم بدورها للحفاظ على عــاقــات األخــــوة األفــريــقــيــة والـــجـــوار، وأال تـعـمـد إلـــى تـصـعـيـدهـا. ولــلــســودان تـاريـخ أبــــوي نــاصــع فـــي اســـتـــقـــرار تـــشـــاد. واألمــــر نـفـسـه يـــقـــال عـــن عـــاقـــات الـــســـودان ودولـــة أفــريــقــيــا الـــوســـطـــى، وهــــي الـــطـــرف الــثــالــث الذي طاوله اتهام مستعجل للتدخل تأثيرًا غير مرغوب في الحرب في السودان، وفي إقليم دارفــور تحديدًا الـذي يتاخم أراضـي تشاد. ولك أن تعجب ملاذا لم تعمد حكومة األمـر الواقع في السودان إلى إقحام ليبيا في الشكوى املرفوعة إلى مجلس األمن، إذ ثمة شواهد عديدة فيها ما قد يثبت تهاون السلطات الليبية في إدخــال سـيـارات دفع رباعي بــاآلالف وليس املئات عبر الحدود الـلـيـبـيـة الــســودانــيــة إلـــى داخــــل الـــســـودان. ومعروف تاريخ الجوار السوداني الليبي الــذي شهد هــذا الـنـوع مـن الـتـدخـات، غير أن الدبلوماسية السودانية تجاهلت اتهام لـيـبـيـا، ربــمــا لــحــســابــات تــخــص عاقاتها بطرف من األطراف التي تتنازع على الحكم في ليبيا.
)3(
لـيـسـت هـــذه املــقــالــة بــصــدد إثــبــات حقيقة االتـــهـــــــــــامـــات الــــتــــي أعـــلـــنـــهـــا الـــــســـــودان أو خطلها، وهـو يتقاتل مع نفسه على حساب مواطنيه، ولكن ما يلفت النظر ما نرى من ضعف فـي تفعيل التواصل الدبلوماسي بـني الــســودان والـــدول التي رفعت حكومة األمــر الواقــع شكواها ضدها إلى مجلس األمــن. من األعــراف الدبلوماسية ما يتيح تـــدّرجـــا مـعـلـومـا تــجــري عــبــره مـعـالـجـة ما ينشب من خافات بني الدول. عند بدء مثل تلك الخافات مثا، يقع التنبيه عبر تبادل رســائــل، خصوصا بحكم وجـــود التمثيل الـدبـلـومـاسـي بــني الـطـرفـني املختلفني، ثم يرتفع مستوى التواصل بإيفاد مبعوثني إذا اقتضى الحال. أمـا إن استعصى األمر بعد ذلك، فيكون املجال مفتوحا لوساطات أخوية ممن لهم صات بني تلك األطــراف، أو أن تلجأ األطـــــراف إلــى حـل خافاتهما بــالــلــجــوء إلــــى املـــنـــصـــات اإلقــلــيــمــيــة الـتـي تجمعهم لـتـافـي التصعيد، وتـبـقـى بعد ذلـك منصة األمــم املتحدة آخـر ما يشتكى إلـــيـــه. فـيـبـقـى الــــســــؤال املـــحـــيـــر: ملـــــاذا هــرع الــــســــودان، فـــي اســتــعــجــال دبــلــومــاســي قد ال يــكــون مـــبـــررًا، إلـــى الــشــكــوى لـــدى األمـــم املـــتـــحـــدة، مـــن دون اســـتـــنـــفـــاد الــخــطــوات األخرى املتاحة؟
لعل المتابعين لمسوا كيف نال اتساع دائرة الحرب من انهيار كل مؤسسات الدولة، بما فيها ومنها جهاز الدبلوماسية السـوداني الذي تمثله وزارة الخارجية
)4(
لو كانت لجامعة الــدول العربية أدوار في معالجة الـخـاف بـني الــســودان واإلمـــارات، ملا وجـدت حكومة األمـر الواقع ما يدفعها إلـى الشكوى لألمم املتحدة، فالخاف هو بـني دولتيـن عربيتني تجمعهما تاريخيا عـــاقـــات عـمـيـقـة مــن الــتــعــاون والــشــراكــات، بحكم روابـــط العقيدة والـلـسـان والثقافة. ربما وقوع حرب غزة بعد نحو ستة أشهر مــــن حـــــرب الـــــســـــودان قــــد شـــغـــل الــجــامــعــة. والخشية أن تكون لبعض األعـضـاء فيها مـــن يــــرى مـنـطـقـا فـــي تـــفـــاوت الــتــعــامــل مع بــعــض دولـــهـــا بـحـكـم تـصـنـيـف ال تخرجه األلــــســــن، عـــن دول فـــي املـــركـــز وأخــــــرى في الـهـامـش، فـوقـع نسيان حــرب الــســودان أو تناسيها. لكننا لم نشهد توجها في ذلك االتـــــجـــــاه، وال ســمــعــنــا مــــن حـــكـــومـــة األمــــر الواقع في السودان تملما أو استياء، بل تـابـع الجميع إسـراعـهـا إلــى الشكوى لدى مـجـلـس األمـــــن، لـنـشـهـد نــوعــا مـــن الـــدرامـــا الدبلوماسية املحزنة باستعراض لم يكن مناسبا أن يقع تحت قبة األمم املتحدة. ولـك أن تسأل عن االتحاد األفريقي، وهو املنظمة السياسية اإلقليمية التي تجمع الـــســـــــودان مـــع تــشــاد وأفــريــقــيــا الـوسـطـى وبـقـيـة دول غـربـي أفـريـقـيـا، إذ ال تـجـد له دورًا مؤثرًا بحكم ما اتخذ من قرار حاسم بــتــجــمــيــد عـــضـــويـــة الـــــســـــودان إثـــــر وقــــوع انــــقــــاب عـــســـكـــري ال يــجــيــز االعـــــتـــــراف بـه ميثاق ذلك االتحـاد.
)5(
وهكذا وجدت دبلوماسية السودان والباد فــــي حـــــرب مــــع نــفــســهــا طـــابـــعـــهـــا أفـــريـــقـــي، تتعامل مع ظرف أفضى بها إلى ما يشـبه الــعـــــزلــة فـــي إقـلـــيـمـهـا، يـسـتـعـصـي عليها الـتـعـامـل إليـجـــــاد حـلـول لحربها العبثية تـــحـــت مــظــلــة املــنــظــمــة األفـــريـــقـــيـــة، بـحـكـم تجميد عضويتها فيه، في حني تتناسى الــجــامــعــة الــعــربــيــة الــــســــودان بـحـكـم أزمـــة طـابـعـهـا أفـريـقـي ال تعيرها كبيـر عناية، فـيمـا انشغالها بأمر حـرب إسرائيل ضد فلسطني بات أدعى. غير أن تلك العزلة، كما
هو واضح، سببها السودانيون أنفسهم، إذ بتساهل تعاملهم مع بعض أطراف خارج حـــــدود بــــادهــــم، خــصــوصــا بــعــد إســـــقـاط نـظـام عـمـر البشـير، مـنـحـت تـلـك األطـــراف فرصا للتأثير في مجريات الحرب لتتسع دوائرها، فكأنها صارت حـربا إقليمية بني أطـــراف أجنبية ذات مصالح، مثلما فيها من أجندات تحـرك من بعـيد طرفي الحرب في السودان، بخيوط من تحالفات خفية، جعلتها تـتـواصـل، يوما بعد يــوم وشهرًا بـــعـــد شـــهـــر، لـــيـــكـــون احـــتـــمـــال تـرشـــــيـحـهـا للتـدويل أقرب من إمكان إيقـافـهـا.
)6(
ولكن ال بد من ماحظة مهمة، تتصل بأداء دبلوماسية الـســـودان فـي هـذا الصـدد. ... لعل املتابعني ملسوا كيف نال اتساع دائرة الـحـرب مـن انهيار كـل مـؤسـسـات الــدولــة، بـــمـــا فــيــهــا ومـــنـــهـــا جـــهـــاز الــدبــلــومــاســيــة الـســـودانـي الــذي تمثله وزارة الخارجية. لقد ظل أهـم دور لتلك الدبلوماسية يتمثل فــــي تــقــديــمــهــا الـــنـــصـــح لـــصـــاحـــب الـــقـــرار السياسي األول في إدارة عاقات السودان الخارجية. غير أن صاحب هذا القرار هنا هـــو مــا يـســـمـى املـجـلـس الــســـــيــادي؛ وهـو مـــجـــلـــس بـــــات هـــيـــكـــا يـــتـــهـــاوى تــمــاســكــه بــســبــب تــشــتــت الـــتـــصـــريـــحـــات وتـــضـــارب الـبـيـانـات عـلـى ألـسـنـة أعـضـــائـه، مــا أربــك أداء تلـك الدبلوماســية، لـيـراها املراقـبون تابعـا لبعض قـــــــرارات، ال نـاصـحـا يعـيـن فــي ضـبـط رصـانـتـهـا صـيـاغـة ومـحـتـوى. تنظر فــي أحـــوال معظم بعثات الــســودان الـخـارجـيـة، فتجد أن الــصــوت األعــلــى من بـــني أغـلـــــب أصـــــوات ســفــرائــهــا هـــو صــوت ممثل السودان في األمم املتحدة، يصـارع بأسـلوب انفعـالـي يضـر بمنطق شكواه أكـثـر ممـا ينفعها، ولـنـا أال نلومه الـلوم كـلـه عـلـى انــفــعــالــه، فـــهـــو دبـلـومـاســـــي قد انقطع عن مهنـته أكثر من 20 عاما. ويبقى التساؤل بشأن أحـول السـودان الـذي كان رقـمـا مؤسـسا ومــؤثــرًا عـلى املستويات، العــربي واألفـريـقـي والــدولــي، عـقـودًا منذ استقاله عام ،1956 فإذا هـو حاليا ريشة تتخطفـها رياح الطامعيـن قبل األبعـدين، وشعبها بني نازح والجئ ومقتول.