نعم ُخدعنا؟
أغلبية سكان قطاع غزة نازحون بال مأوى حقيقي، وال أمن، وال سماح باملساعدات اإلنسانية البسيطة، وثمة قصف كل لحظة على مـرأى من العالم ومسمعه، يـؤدي إلــى قتل األطــفــال النيام والـنـسـاء واملـدنـيـني الــعــزل. لـو كــان الفلسطينيون فـي غـزة حيوانات، لتعاطف معهم املتحضر بصورة أفضل. صحيح أن هنالك حركة احتجاج في جامعاٍت أوروبية وأميركية لشباٍب يحاولون كسر جدران الثقافة املهيمنة على املجتمع، وتتحكم بها وسائل االتصال املرتبطة بأجندات سياسية، وسقوف حرية تنتهي عند حـدود معينة غير معلنة في الـعـادة. وصحيح أن مظاهرات ومسيرات خرجت في عديد من املجتمعات األوروبــيــة، لكن ردود الفعل الغربية ال تــزال دون مستوى الجرائم واملـجـازر بكثير، ومقارنة بسيطة بما حـدث في أوكرانيا كفيلة بكشف حجم الفرق في النظر إلى العرب واملسلمني من جهة، وإلى الغرب املسيحي من جهة أخــرى. ما الجديد في هذا الكالم؟ ألم نكتبه ونقله في بداية حرب اإلبـادة هذه؟ صحيح، لكن من املهم أن نفكر بصورة مختلفة في اليوم التالي للحرب، على أكثر من صعيد، ومن ذلك الدروس التاريخية والنفسية الكبرى املستفادة مما يحدث، وحكم تأثير هذه الـدروس في املستقبل على عالقتنا، نحن العرب واملسلمني، وما نجم، مبدئيًا، عن التعاطي األميركي والغربي عمومًا (بالطبع، باستثناء الحكومات التي وقفت بصورة حضارية حقيقية مع الشعب الفلسطيني، كإسبانيا وبلجيكيا وإيرلندا وغيرها) من «كفر» نسبة كبيرة من الشباب العربي واملسلم باالدعاءات الغربية بالديمقراطية وحقوق اإلنسان واملبادئ العاملية التي ال تتجزأ، تبني أن ذلك كله هراء وليس حقيقيًا، عندما يتجاوز السؤال األخالقي - الحقوقي تخوم الحضارة الغربية، ليس بمعناها الواسع، بل حتى باملعنيني، العرقي والديني. مـن الطبيعي أن يكون هـذا موقف غالبية جيل الشباب، فما يــراه مـن جنون القوة الصهيونية وصمت العالم وتواطئه ال يكاد يصدقه عقل. ولكن إذا تجاوزنا الشباب إلى النخب املثقفة والناشطني املدنيني والسياسيني والقوى التي طاملا كانت تؤمل بالوصول إلى الديمقراطية وتعزيز مبادئ حقوق اإلنسان في بالدنا، هل وصلت إلــى قناعة شبيهة بعد الـحـرب على غـــزة الـتـي تـزيـل أي أوهـــام مـن العقول بوجود أجندة حقيقية للغرب، بخاصة الواليات املتحدة، بدعم الديمقراطية وحقوق اإلنسان والحريات العامة في عاملنا العربي واإلسالمي؟ وإذا كانت هنالك فرضية (لها وجاهة) بأن األمور تختلف عندما تصل إلى املوضوع الصهيوني، بسبب التأثير والنفوذ الصهيوني في الغرب، فإن هذه الفرضية نفسها، في ظني، قاصرة عن تفسير املوقف الغربي عمومًا. فالصهيونية ليست بهذا الحجم الهائل من التأثير. وربما ما يجب أن نراجعه ونعيد النظر إليه بصورة موضوعية أكثر دقة وعلمية، وبعيدًا عن العواطف والدعايات، تاريخ تشكل الحضارة الغربية الحديثة واملعاصرة، واإلرث الذي حملته معها من العصور الوسطى ومن االحتكاك بالعثمانيني والحروب الصليبية بما يتضمنه من موقف عدائي مستبطن عادة تجاه املسلمني والعرب، ال يزال مؤثرًا، على ما يبدو، في أوساط سياسية وثقافية عديدة. ومــن جـهـة أخـــرى، أن نعيد التفكير والـتـأمـل باملنظور الـرومـانـسـي الـــذي أضفيناه (النخب املثقفة واملفكرين) على الحضارة الغربية، بوصفها حضارة إنسانية تحمل القيم األخالقية والديمقراطية والعاملية املثالية. وهذا ليس دقيقًا، ويختزل عديدًا من األفـكـار والقيم املـاديـة والربحية واالستعمارية والنفعية والعرقية التي تحكم هذه الحضارة وسلوك الدول الغربية تجاه اآلخر. بالضرورة، ليست هذه دعوة إلى االرتداد وإضفاء الشرعية على االستبداد السياسي العربي، الذي هو الحليف املوضوعي للسياسات االستعمارية واملصالح األميركية في املنطقة، ما أدى، وال يزال، إلى حالة االرتهان والتبعية والتخلف والتفكك الحالي في أغلب الدول العربية. لكن املقصود هنا «جرس إيقاظ» Walk Up Call حتى ال تبقى النخب نائمة في عسل أوهـام بوجود دعم غربي أو أميركي ألي انتقال نحو الديمقراطية في هذا العالم العربي املوبوء بكل أنواع الباليا.