قصة المراهق البولندي الذي أنقذه الذكاء االصطناعي
عرفت شركة DeepL األلمانية التي تطّور أداة ترجمة قائمة على الذكاء االصطناعي، كيف تفرض نفسها على الساحة التكنولوجية، وهو ما جعلها مشروعًا استثماريًا ناجحًا ومنافسًا لوادي السيليكون
استطاعت شـركـة DeepL األملــانــيــة، التي تـــطـــور أداة تــرجــمــة قــائــمــة عــلــى الـــذكـــاء االصطناعي وتترجم إلى 32 لغة عاملية، أن تكسب ثـقـة املستثمرين وتـجـمـع 300 مـلـيـون يـــورو قـبـل أسـبـوعـن، مــا ضاعف قـيـمـة الــشــركــة فــي األســـــواق الـعـاملـيـة إلـى ملياري دوالر خالل عام واحد. في إبريل/ نيسان املاضي أيضًا، صنفت مـــجـــلـــة فـــــوربـــــس االقــــتــــصــــاديــــة الـــشـــركـــة الـتـي تتخذ مـن مدينة كولونيا األملانية مــقــرًا لـهـا، بوصفها واحـــدة مــن بــن أكثر الـــشـــركـــات الــنــاشــئــة الــــواعــــدة فـــي مــجــال الـذكـاء االصطناعي فـي أملـانـيـا، مـا أدخـل DeepL فـــي دائـــــرة املـنـافـسـة مـــع عمالقة وادي السيليكون وعلى رأسهم «غوغل»، و«مــــايــــكــــروســــوفــــت»، و«أوبـــــــــن إيـــــه آي». وبحسب آخر إحصاءات الشركة املعلنة، بــلــغ حــجــم مـبـيـعـات DeepL خـــالل 2021 مـا قيمته 28.3 مليون يـــورو، مـع صافي ربـــح قــــدره )1.5( مـلـيـون يــــورو، مــا جعل الشركة تتوقع مضاعفة حجم مبيعاتها وأرباحها خالل األعوام القليلة املقبلة.
ترجمة تتفوق على «غوغل»
حــظــيــت DeepL بــاهــتــمــام عـــاملـــي بـعـدمـا أثبت الخبراء أن ترجماتها املبنية على الــذكــاء االصـطـنـاعـي كـانـت أفـضـل بكثير مـــن تــرجــمــات Google Translate وحـتـى «تشات جي بي تي». إضافة إلى الوتيرة الـــتـــي تـــثـــري بـــهـــا DeepL بـــاقـــة الــلــغــات الـــتـــي تــقــدمــهــا لــلــشــركــات واألفــــــــراد، ففي أشـهـر قليلة أضـافـت الـشـركـة عشر لغات إضـافـيـة إلــى باقتها، مــن بينها الكورية والـــنـــرويـــجـــيـــة والـــعـــربـــيـــة، مــــا يــعــنــي أن األســواق اآلسيوية والعربية هي األخرى ستكون هدفًا للشركة في خططها املقبلة. تـــــأســـــســـــت شـــــركـــــة DeepL عــــــــام 2017 بفريق عمل يتكون مــن 22 مـوظـفـا فقط، وبـــســـبـــب نـــمـــوهـــا الــــســــريــــع، صــــــار لـــدى الشركة الـيـوم نحو 900 مـوظـف، ويعمل هـــذا الـفـريـق الـنـشـط تـحـت إدارة مؤسس الـشـركـة ورئيسها التنفيذي يـاروسـالف كوتيلوفسكي ذي الـ 41 عامًا، والذي تلقبه الــصــحــافــة األملـــانـــيـــة بــــ «الــبــطــل الـصـامـت فـي مشهد الـذكـاء االصطناعي األملـانـي»، والــحــقـيــقــة أن هــــذا الــتــوصــيــف ال يبتعد كثيرًا عن شخصية كوتيلوفسكي وقصة نجاحه املثيرة.
المراهق البولندي
هـــاجـــر يــــاروســــالف كـوتـيـلـوفـسـكـي وهــو فــي الـثـانـيـة عــشــرة مــن عــمــره مــع والــديــه من بولندا إلـى أملانيا، من دون أن يعرف كـلـمـة واحـــــدة بـالـلــغـة األملـــانـــيـــة، وشـكـلـت هـــذه املــعــانــاة مــع الـلـغـة الــجــديــدة الخيط األول الــــذي دفـــع الـطـفـل الـبـولـنـدي الـيـوم إلــــــى تـــأســـيـــس شــــركــــة مـــعـــنـــيـــة بـــتـــذويـــب الحدود بن اللغات، وهو ما أوضحه قبل عـــام لصحيفة كـولـونـيـا بـيـزنــس بـقـولـه: «أوصلتني هذه التجربة إلى ما أنا عليه اليوم، ولوال جهلي باللغة األملانية ملا كان هناكDeepL من األساس». بــعــد إتـــمـــام دراســـتـــه لــعــلــوم الـكـمـبـيـوتـر، أســــس كـوتـيـلـوفـسـكـي مـــع آخـــريـــن شـركـة Linguee عـام ،2012 وهـي شركة صغيرة مـقـرهـا كـولـونـيـا، تــقــدم قـوامـيـس ترجمة عبر اإلنترنت معتمدة على قواعد بيانات كبيرة خالية مــن األخــطــاء، تشبه قواعد البيانات الخاصة باملؤسسات األوروبية، ومــع اسـتـمـرار تـطـور تكنولوجيا الـذكـاء االصـــطـــنـــاعـــي، أدرك كــوتــيــلــوفــســكــي أن «قواعد البيانات» كانت األســاس املثالي إلنشاء «آلـة ترجمة متطورة» باستخدام الـذكـاء االصطناعي، وهنا بـدأ ينظر إلى األمر كله من زاوية مختلفة. في عام ،2017 أسس كوتيلوفسكي شركة ،DeepL وادخــل Linguee الصغيرة تحت
جـنـاحـهـا، لـيـحـول الـشـركـة الـخـاســرة إلـى قصة نجاح ال تزال تبهر وادي السيليكون نفسه، خاصة حن أتاح نظام االشتراكات لألعضاء من شركات وأفراد (يتيح املوقع ترجمة مجانية للنصوص بحد أقصى 1500 حــرف)، ليصبح لـدى DeepL اليوم أكثر من مئة ألف اشتراك مدفوع. ويفسر مهندس البرمجيات البولندي الــــعــــامــــل الــــرئــــيــــس فـــــي نــــجــــاح الـــشـــركـــة بـــعـــبـــارة واحــــــــدة: «الـــتـــركـــيـــز عـــلـــى هـــدف
واحد وعدم تشتيت الجهود»، ما يفسره فــــي مــــوضــــع آخـــــر بـــقـــولـــه: « أمـــــا فــــي مـا يـخـص شـركـة مـثـل غــوغــل، فــإن الترجمة إحـــــــدى خـــدمـــاتـــهـــا الــــعــــديــــدة، أمــــــا نــحــن فـلـيـس لـديـنـا مـهـمـة أخـــرى ســـوى تقديم ترجمات دقيقة باالعتماد على تقنيات الـــذكـــاء االصــطــنــاعــي املـــتـــطـــورة، إضــافــة إلـى أننا ننصت إلـى مالحظات عمالئنا بـــاســـتـــمـــرار، لــنــتــمــكــن مــــن تــلــبــيــة أفــضــل صيغ الترجمة، وصحيح أننا نقدم اليوم خدمات الترجمة إلـى 32 لغة فقط، وهو أقـــل بكثير مــن بـعـض مـنـافـسـيـنـا، إال أن «جودتنا» أفضل بشهادة الخبراء». تـــمـــتـــلـــك ،DeepL الـــــتـــــي يـــــأتـــــي اســـمـــهـــا اخــتــصــارًا لـــ ،DeepLearning مـكـاتـب في تكساس واليابان، ولكن مكتبها املركزي يقع فـي مبنى عــادي فـي مدينة كولونيا األملــانــيــة. ويـصـف كوتيلوفسكي أوروبـــا بأنها «البيئة املثالية» لشركته، حيث يتم التحدث فيها بأكثر من 200 لغة ولهجة، وأكثر من 60 في املائة من مواطني االتحاد األوروبي يتحدثون لغة ثانية غير لغتهم األم: «إن الـــعـــالـــم األنـــغـــلـــوســـكـــســـونـــي ال يـدرك معنى العيش في منطقة تستخدم فــيــهــا الـــعـــديـــد مــــن الــــلــــغــــات، لـــذلـــك لـيـس وادي الــســيــلــيــكــون مـــكـــانـــا جـــيـــدًا لـشـركـة متخصصة في الترجمة».
الذكاء االصطناعي خارج دوائر األكاديميات
يـشـعـر كـوتـيـلـوفـسـكـي بــالــرضــا لــخــروج الــــــــذكــــــــاء االصــــــطــــــنــــــاعــــــي مـــــــن الـــــــدوائـــــــر األكاديمية ليجد طريقه اليوم إلى خدمة «املتطلبات الطبيعية واملهنية للناس»، وفــــــي رأيـــــــه أنــــنــــا: «وصـــلـــنـــا إلــــــى لـحـظـة تـــاريـــخـــيـــة أصـــبـــحـــت الـــتـــطـــبـــيـــقـــات فـيـهـا أكـــثـــر ســهــولــة وأفـــضـــل تــقــنــيــة وأرخــــص ســـعـــرًا، بــفــضــل الـــبـــحـــث والـــنـــمـــو الـكـبـيـر للذكاء االصطناعي التوليدي والتطوير املـــســـتـــمـــر الــــــذي تـــشـــهـــده الــتــكــنــولــوجــيــا فــي الــســنــوات األخـــيـــرة». وفـــي رأي رجـل األعــمــال الــشــاب أن شـركـتـه تـسـاعـد على توفير أداة تعمل على تحسن وتوطيد «التفاهم والتسامح بن الـنـاس»، يقول: «نـحـن نـسـاعـد الــنــاس، وال نستبدلهم»، ردًا منه على الشكوك التي طرحت حول املخاطر املحيطة بمهنة الترجمة ومدى سيطرة اآللة عليها. بانتهاء جـولـة االسـتـكـتـاب الـتـي أدارتـهـا شركة «إندكس فنتشرز» األسبوع املاضي ملصلحة ،DeepL والتي وصلت إلى جمع 300 مليون يورو من املستثمرين في أيام قـلـيـلـة، أصــــدرت الــشــركــة بـيـانـًا لرئيسها الـتـنـفـيـذي قـــال فــيــه: «إن هـــذا االسـتـثـمـار ســيــوفــر دعــمــًا ملـهـمـة «ديـــبـــل» فــي إحـــداث تـــــحـــــول كـــبـــيـــر عــــلــــى مــــســــتــــوى الــــتــــجــــارة العاملية بأكملها، ألن مهمتنا هي تسهيل التواصل بن الشركات فيما بينها حول العالم». بهذا املفهوم الذي تتعامل فيه DeepL مع تقنيات الـتـرجـمـة الـحـديـثـة، تحقق ربما املقولة الـــواردة فـي سفر التكوين «كانت األرض كلها لسانًا واحــدًا ولغة واحــدة»، مـــع فـــــارق بــســيــط، أن الــشــركــة الـطـمـوحـة تسعى إلى تحويل الفعل املاضي في اآلية السابقة، إلى حاضر ومستقبل. لم تتوقف جهود DeepL فقط على تقديم تــرجــمــات احــتــرافــيــة لــلــشــركــات واألفـــــراد حـــــــول الـــــعـــــالـــــم، بـــــل أطــــلــــقــــت فـــــي إبــــريــــل املاضي أداة جديدة باسم DeepL Write Pro مـــدعـــومـــة بـتـقـنـيـة LLM املـــتـــطـــورة، الـــتـــي تـــســـاعـــد عـــلـــى تـــعـــديـــل الــنــصــوص وصـــيـــاغـــتـــهـــا بـــــصـــــورة احـــــتـــــرافـــــيـــــة، مــا جـــعـــل مـــجـــلـــة فــــوربــــس تـــتـــوقـــع لــلــشــركــة الـــــــواعـــــــدة أن تــــتــــصــــدر ســــبــــاق شــــركــــات الذكاء االصطناعي في مجال «استثمار اللغات» والتي تبلغ قيمتها اليوم 67.9 مليار دوالر، ومــن املـتـوقـع أن تنمو إلى 95.3 مليار دوالر بحلول عام .2028 تـــشـــكـــل طــــمــــوحــــات DeepL املـــتـــنـــامـــيـــة رغبتها في أن تكون «برج بابل الجديد» أمــــــــام عـــمـــالـــقـــة وادي الـــســـيـــلـــيـــكـــون فــي الواليات املتحدة األمريكية وغيرها من بــلــدان الــعــالــم، خـاصـة أن الـنـمـو السريع لــلــشــركــة يــثــبــت أن املـــنـــافـــســـة مـحـسـومـة للمراهق البولندي الذي دخل أملانيا ذات يوم من دون كلمة أملانية واحدة، فقرر أن يمتلك الــلــغــات، بـــاألحـــرى، 32 لـغـة فقط، حتى اليوم!
هاجر كوتيلوفسكي إلى ألمانيا من دون أن يعرف اللغة األلمانية