Al Araby Al Jadeed

االرتحال بصحبة غوستاف دالمان وصقر أبو فخر

- محمد أبو زيد

ال أعــــرف إذا كـــان اســـم غــوســتــ­اف داملـــــا­ن قد مثل لي يومًا ما كابوسًا، ولكني بت أعرف يقينًا بعد أن أخــذت الترجمة عشر سنوات فـــي الــعــمــ­ل الـــــذي أكـــــب عــلــيــه داملــــــ­ان عـــقـــودًا، وحـمـل عـنـوان «الـعـمـل والــعــاد­ات والتقاليد فـــي فــلــســط­ــن»، أن ســـفـــرًا مــثــل هــــذا ال غنى عــنــه مـــعـــرب­ـــًا. سـيـبـقـى الـــيـــو­م الـــعـــش­ـــرون من فـبـرايـر/ شـبـاط 2013 مـحـفـورًا فـي ذاكـرتـي. إنها السابعة مساء حن التقينا على طعام عشاء في فندق موفنبيك (حاليًا ملينيوم) فــي رام الــلــه. املـــرحــ­ـوم فــايــز الــصــيــ­اغ، مدير وحــدة ترجمان في املركز العربي لألبحاث ودراســـــ­ة الـسـيـاسـ­ات فــي حـيـنـه، كـــان ضيفًا ومضيفًا في آن، واملرحوم كمال عبد الفتاح، الـــذي دعـانـي إلــى اللقاء الـــذي تمحور حول تعريب موسوعة غوستاف داملــان. علي في هذا املقام القول إن عبد الفتاح كان أول من سمعته يتحدث عن غوستاف داملان وعمله املوسوعي قبل اللقاء بسنوات. عـــلـــى مـــــائــ­ـــدة الــــطـــ­ـعــــام، كــــــان صــــديـــ­ـقــــان قــد أتــمــا دراســتــه­ــمــا الـعـلـيـا فـــي أملــانــي­ــا، عـــاوة عـــلـــى املــــرحـ­ـــومــــة الـــكـــا­تـــبـــة لـــيـــلـ­ــى األطــــــ­ـرش. وبعفويته املعهودة، وزع «شيخ الجغرافين الـــفـــل­ـــســـطــ­ـيـــنـــي­ـــن»، (لـــــقـــ­ــب عـــــــــ­ـرف بـــــه كـــمـــال عـــبـــد الــــفـــ­ـتــــاح)، افـــتـــر­اضـــيـــًا املــــجــ­ــلــــدات عـلـى الحاضرين وعلى غائبن، ممن كانوا على صـلـة بـاملـوضـو­ع وباللغة األملـانـي­ـة. حظيت بــمــجــل­ــديــن، الــــرابـ­ـــع والـــــسـ­ــــادس. بــعــد أيـــــام، وصلت نسختان مـصـورتـان. وكمن يشارك في سباق تتابع، انطلقت على الفور.

َُّّ لـــم يـكـن لــــدي تـــصـــور مـسـبـق عـــن املــــــا­دة. كـل مــــا تــــوفـــ­ـر لـــــــدي فــــي ذلــــــك الــــوقــ­ــت لــــم يــتــعــد اســـتـــع­ـــدادًا لـلـمـشـار­كـة فـــي الــعــمــ­ل، نــوعــًا من نـــظـــرةّ خــاطــفــ­ة، اتــضــحــ­ت ٍالـــصـــو­رة الـتـالـيـ­ة الـــتـــح­ـــدي. وفـــي تـشـخـيـص فــــوري مـــن خــال لـــــدي: أوال، الــلــغــ­ة املـسـتـخـ­دمـة لـيـسـت الـتـي اعتدت على التعاطي معها، على الرغم من أنــنــي، وبــكــل تــواضــع، لــم أقــصــر مطالعاتي عــلــى مـــواضـــ­يـــع مــــحــــ­ددة. ثـــانـــي­ـــًا، كــــل جـمـلـة أو فــقــرة تــكــاد تـشـبـه جــبــل الـجـلـيـد الــــذي ال يـظـهـر مـنـه ســـوى الــقــمــ­ة. ثــالــثــًا، املـعـلـوم­ـات املـدفـونـ­ة عـابـرة للعصور، وال يمكن تركها من دون نبش. رابعًا، الجهد الكبير املبذول في كتابِة لغٍة بـحـروِف لغٍة أخــرى. خامسًا، وفـــرة االقــتــب­ــاســات وبــلــغــ­ات مــتــعــد­دة. ليس

سرًا أن رد فعلي األولي كان نوعًا من ارتياب سـاورنـي في قدرتي على القيام بالترجمة. مـــرة أخــــرى: لـقـد اعــتــدت عـلـى لـغـة غـيـر هـذه اللغة. كنت أعزي نفسي أن خبراء في املادة ال بد أن يراجعوها، وأن عما موسوعيًا بهذا املستوى ال بــد أن املـشـاركـ­ن فيه سيجدون قـاسـمـًا مشتركًا بينهم. انـطـلـقـت بـخـطـوات

ٍُ بطيئة كمن يتحرك فـي حقل ألـغـام. اعتدت أال أستخدم الحاسوب مباشرة. تعودت، في وقـت مبكر من حياتي، على استخدام أقام حبر سائلة ذات ريشة عريضة. ربما شكلت هـــــذه، وصــفــحــ­ات نــاصــعــ­ة الـــبـــي­ـــاض، طقس الكتابة أو الترجمة الوحيد. أشــك أنني من

ُّ

ٍُ دونها كنت سأنجز العمل. من جهة، وجدت متعة ال تقدر بثمن، حن كنت أكتب بحروف عـربـيـة مـا كتبه املـؤلـف مـن أهــازيــج وأمـثـال عـربـيـة بـــحـــرو­ف التـيـنـيـ­ة. حـفـظـت عــن ظهر قـلـب مـتـى تــأتــي الــهــمــ­زة واأللـــــ­ف املـقـصـور­ة واملـــمــ­ـدودة والـــحـــ­اء والـــهـــ­اء والـــخـــ­اء والـسـن والـصـاد والـضـاد والـــدال والــــذال... إلــخ. ومن جــهــة أخـــــرى، كــانــت هــنــاك األزمـــنـ­ــة الـقـديـمـ­ة الـتـي تتطلب إملـامـًا بالعهد الـقـديـم خاصة. كانت األسـفـار مكتوبة بـحـروف مختصرة. حـــاولـــ­ت االلـــتــ­ـفـــاف عــلــيــه­ــا، حــتــى ال أتــوقــف طـويـا عندها. اعـتـقـدت أن علي االستعانة بمن درس الاهوت، لكن «البشارة» أتت من «مـنـسـق املــشــرو­ع» نفسه: ال داعـــي لترجمة األزمـــنـ­ــة الـقـديـمـ­ة. حـتـى اآلن، ال أعــــرف على أي أسـاس قـرر ذلـك، خصوصًا أنـه كان علي تــرجــمــ­تــهــا الحــــقــ­ــًا. لــــم يـــتـــوق­ـــف األمــــــ­ر عـنـد املجلدين املذكورين، بل بات منسق املشروع يفاتحني تباعًا بموضوع مجلدات أخرى لم يعمل من وكلهم بها عليها، على الرغم من مـرور وقـت طويل. وفي كل مـرة كان جوابي «بـــتـــمـ­ــون» يـعـكـس ضـمـنـًا املــتــعـ­ـة الحقيقية الــتــي بـــت أشــعــر بـهـا فـــي الــتــرجـ­ـمــة، بـعـد أن تولد لـدي إحساس فطري أنـي بـت «قريبًا» من املؤلف، فضا عن رغبة في التعرف إلى الثقافة واملـعـلـو­مـات الـغـزيـرة الـتـي كدسها. أحـيـانـًا، كنت أتـوقـف فـجـأة خــال الترجمة، وقد انتابتني حالة من الدهشة أمام كل هذا املجهود الذي بذله املؤلف. اآلن فقط يمكنني الــقــول إن جـهـد املــؤلــف عـلـى مـــدى عـقـود قد يكون السبب الرئيس أمام إنجازي، مترجمًا ومراجعًا، هذا العمل. ربما أردت الشعوريًا مــحــاكــ­اتــه. ال شـــك أن لــــدي اآلن أنــــه لـــم يكن يــبــحــث عــــن ســـبـــل ســـهـــلـ­ــة، بــــل اخــــتـــ­ـار طــرقــًا وعـــرة ربـمـا كـانـت السبب وراء صنع هـويـة جديدة مركبة تشكلت لدي في أثناء العمل. فــقــد وضــعــنــ­ي وجـــهـــًا لـــوجـــه قــبــالــ­ة عـصـور وأزمــنــة كـنـت أجـهـلـهـا، شـكـلـت فيها كلمات بـالـفـلـس­ـطـيـنـيـة – املــســيـ­ـحــيــة والــســري­ــانــيــة واآلشـــور­يـــة واآلرامـــ­يـــة والــعــبـ­ـريــة والـعـربـي­ـة والتركية واليونانية عامات على الطريق. كـمـا وفــــر لـــي الــفــرصـ­ـة ألن أتــعــمــ­ق أكــثــر في اللغتن العربية واألملانية. ولم تغب العاطفة عن املـوضـوع. فقد أحسست خـال الترجمة أنــي بصدد عـاشـق لفلسطن، قبل أن يكون هناك «عاشق من فلسطن». إنه رجل اعتاد أن يذكرني بقول نزار قباني أن العرب دخلوا إسبانيا عشاقًا وليسوا فاتحن. في ذهني انطبعت صـــورة عـاشـق مـتـواضـع. ولــم تكد تنتهي رحلتي مع داملــان، حتى بــدأت رحلة أخرى لم يكن قد خطط لها أصا، رحلتي مع صقر أبو فخر، أكاد أجزم أنها كانت أصعب من رحلتي مع داملان. فعوضًا عن ماحقتي مــن طـاقـم «تسقيط األخـــطــ­ـاء»، كـــان عـلـي أن أكــــون تـــــارة أســـتـــا­ذًا لـلـغـات الـسـامـيـ­ة أو من كهنة العهد القديم، وطـورًا تلميذًا في اللغة

ّّ العربية: فكم مـن مــرة أعـادنـي أبـو فخر إلى النص األصلي للتأكد من سريانية كلمة أو آشوريتها؟! كــم مــن مـــرة ردنــــي عـلـى أعــقــابـ­ـي، حـتـى بعد

أن أتــقــنــ­ت كـتـابـة لــغــة بــحــروف لــغــة أخـــرى؟ فإذا بعبد الوالي يصبح عبد الولي وقريعة ســـيـــدي تــصــبــح صــلــعــة جـــــــدي، وســـــي رايــــد يصبح خليل رعـــد أول مــصــور فلسطيني، ورهـــــبـ­ــــنـــــ­ي عـــــــــ­اد رحـــــبــ­ـــانـــــ­ي واملــــسـ­ـــتــــعـ­ـــمــــرة العربية تصبح الطالبية (حــي بناه أثرياء فلسطينيون غـرب الـقـدس) ورأس الزيامبة يبقى حقيقة قائمة حتى اليوم في القدس! حــتــى األرقـــــ­ـام لـــم تـسـلـم مـــن أبــــو فــخــر: ملـــاذا 734 مترًا تـسـاوي 27 مترًا مـربـعـًا؟ وأخـيـرًا، ولــيــس آخــــرًا مــــاذا نـعـمـل بـــ «زمــقــنــ­ا»؟ إذ لم يحسم الــخــاف حـــول «زمـيـقـنـا» حـتـى بعد صدور املوسوعة. هل هو الـ «زميق» وتعني «حليق اللحية»، كما وردت في معاجم اللغة، أم أن «زمقنا» ليس سـوى أحـد نــزالء مصح املجذومن في القدس سليل عائلة من لفتا املـحـاذيـ­ة لـلـقـدس؟ ثــم كـانـت هـنـاك الكلمات اليونانية: أين هي بحروفها اليونانية؟ ذات خميس في مــارس/ آذار، وفـي ظـل جو عاصف، وعلى طريق املعرجات الـذي يمتد على مسافة 40 كيلومترًا رابطًا أريحا برام الـــلـــه، حـــن كـــانـــت درجـــــة الــــحـــ­ـرارة تنخفض تباعًا حتى بلغ الفرق 15 درجة مئوية عند وصـــولـــ­ي إلـــى رام الــلــه فـــي ســـاعـــا­ت مـــا بعد الظهر، من أجل تحميل الحروف اليونانية على مفتاح حاسوبي. بانفعال ولهفة، كتبت ألبو فخر عن مغامرتي، وكيف انتقلت على عجل من أريحا، حيث الجو الدافئ، إلى رام الـلـه، حيث الـبـرد الــقــارس (كـنـت قـد كتبتها بـالـصـاد). لـم يخف األسـتـاذ تعاطفه، ولكن أيـــضـــًا خــيــبــة أمـــلـــه مـــن ذلــــك الـــــذي اســتــبــ­دل السن بالصاد. خمس عشرة درجة مئوية لم تشفع لي عنده، رغم أن البرد يقرص قرصًا مثل يقرس كما يفيدنا اللغويون. عــادة ما يأتي الفعل في األملانية متأخرًا. وعن ذلك ال يمكنني االعتذار. ولكن علي االعتذار أن فعل الشكر عندي بالعربية قد أتى متأخرًا بعض الـــشـــي­ء. فـعـلـى الــرغــم مــن تــعــقــي­ــدات إداريــــة، ربـمـا نتيجة طــول الـفـتـرة، وتــبــدل القائمن على وحـــدة تـرجـمـان، لعبت مـديـرة الـوحـدة لـــــورا صــــيــــ­اح، دورًا مــنــظــم­ــًا وضـــابـــ­طـــًا. أمــا مـديـرة التحرير، تـريـز سركيس، فقد زينت بـمـاحـظـا­تـهـا الـــصـــا­رمـــة الــعــمــ­ل كـــي يـخـرج بالشكل األنـيـق الـــذي فاجأني عندما رأيـت املجلدات تصطف في صندوقها بمؤسسة عبد املحسن القطان في رام الله أول مرة.

 ?? ?? امرأة من بيت لحم
امرأة من بيت لحم

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar