في وداع أيقونة «أمهات بالسا دي مايو» تلويحة أخيرة بمنديل نورا
رحلت نورا كورتينياس في الشهر الذي ارتبط بنضالها منذ ،1977 لتحقيق العدالة البنها ولجميع المفقودين خالل الُحكم العسكري في األرجنتين
يـقـول منديلها الصغير، املــوضــوع بقصد عــلــى رأســـهـــا بــطــريــقــة طــفــولــيــة، إن ابـنـهـا
ُّ مــفــقــود. فـــي املـــــرة األولــــــى وضــعــت الـنـسـاء على رؤوسـهـن «حـفـاضـات» قبل أن يـقـررن االســــتــــقــــرار عـــلـــى «املــــنــــديــــل» أو «املـــالبـــس البيضاء»، لإلشارة إلى أبنائهن املفقودين خالل الحكم العسكري لألرجنتن، املمتد ما بن عامي 1976 .1983و كــتــبــت نـــــورا كــورتــيــنــيــاس عــلــى مـنـديـلـهـا: «كارلوس غوستافو كورتينياس، موقوف، معتقل، 15 إبريل ،1977 األرجنتن». وبقي املنديل والكتابة على حالهما حتى وفاتها فـــي الــثــالثــن مـــن أيـــــار/ مــايــو املـــاضـــي عن 94 عاما. وللمفارقة، فقد رحلت في الشهر الـــذي تحتفل فيه بعض الـــدول بعيد األم، فيما تحتفل بـه نيكاراغوا فـي الـيـوم ذاتـه. وقــد ارتـبـط هــذا الشهر بنضالها املستمر منذ عقود في «بالسا دي مـايـو»؛ الساحة الشهيرة في بوينس آيرس. املـــفـــارقـــة األكـــبـــر أنـــهـــا مـــاتـــت يــــوم خـمـيـس، وهــــو الـــيـــوم الـــــذي كـــانـــت تــجــتــمــع فــيــه مع غيرها مـن النساء فـي الـسـاحـة، أسبوعيا، فــــي مـــوعـــد مــــحــــدد هــــو الـــثـــالـــثـــة والــنــصــف عـــصـــرًا، لــلــمــشــاركــة فـــي مـــســـيـــرات «أمـــهـــات بالسا دي مايو» منذ عام ،1977 واملطالبة بـمـعـرفـة مـصـائـر أبــنــائــهــن املــفــقــوديــن قبل عــــودة الـديـمـقـراطـيـة لـلـبـالد عـــام ،1983 ثـم املطالبة بالقصاص ومحاسبة املسؤولن
وضـــمـــان أال يــتــكــرر مـــا حــــدث مـــــرة أخــــرى؛ ســواء في األرجنتن أو خارجها، ليتحول نضالهن إلى رمز للكفاح بأبسط األدوات، ويـتـحـولـن هـــن أنـفـسـهـن إلـــى أيــقــونــات. في مشهد قريب جدًا، يتحرك شبان في «بالسا دي مــايــو» نـحـو الـسـيـدة نـــورا وقـــد طعنت فــي الــســن، يـقـبـلـون يــدهــا، يلتقطون معها بعض الــصــور الـتـذكـاريـة، وقــد صـــارت أمــا للجميع، وجــدة مناضلة، وجــزءًا من هوية بوينس آيـــرس وسعيها نحو الـعـدالـة. في مشهد أبعد بكثير، نورا تنجب ابنها البكر كارلوس عام ،1952 ثم مارسيلو عام .1955 تـمـارس األعـمـال اليومية فـي املـنـزل، فترى الطفلن فــجــأة شــابــن، أحـدهـمـا، كـارلـوس غـــوســـتـــافـــو، يــعــمــل فــــي وزارة االقـــتـــصـــاد وينتمي في توجهه الفكري والسياسي إلى الحركة السياسية البيرونية. الحادي عشر من أيـار/ مايو هو يوم ميالد كـــــارلـــــوس الـــــــذي يــــنــــادونــــه بـــاســـمـــه الـــثـــانـــي «غــــوســــتــــافــــو». وفــــــي عـــيـــد مــــيــــالده الـــثـــانـــي والعشرين، أي في عام ،1974 يرفض االحتفال بـــســـبـــب اغــــتــــيــــال األب كـــــارلـــــوس مــوخــيــكــا،
انخرطت في حراكات حقوقية عّدة لم تتوّقف عند مسألة المفقودين
البيروني املعروف بدفاعه عن الفقراء. تطلب نــورا من غوستافو أن يحذر أو يـتـوارى عن األنـــظـــار، فــيــقــول: أتــريــديــن أن يــذهــب أطـفـال األمهات األخريات، عوضًا عني؟ فــي مشهد مـتـقـدم قـلـيـا، تـحـث آنــــا، زوجــة غوستافو وأم ابنه الـوحـيـد، الخطى نحو بـيـت حـمـاتـهـا نــــورا، لـتـخـبـرهـا أنـــه اعـتـقـل. حدث ذلك في عام .1977 فـــي مـشـهـد تــــــاٍل، الـــعـــابـــرون يــطــلــقــون على نساء هن أمهات وجدات اجتمعن في ساحة املـــديـــنـــة، يـبـكـن ويـــولـــولـــن لــفــقــد أبــنــائــهــن، تسمية «مجنونات باسا دي مايو». املجنونة نفسها، نـــورا، طـــارت إلــى مدينة أخـــــــرى فــــي الــــعــــام الـــتـــالـــي الخـــتـــفـــاء ابـنـهــا غوستافو، لتقفي أثـــره حـن نــاداهــا قـاض لـلـتـعـرف إلـــى جـثـث ظــهــرت عـلـى الـسـاحـل. مدير زوجها في العمل قال له: لم ال تربطها بساق السرير، كي ال تمكث في الشارع؟ في مشهد رمزي، كسر السرير. وفي مشهد ال يتوقف، تطالب نورا بتحقيق العدالة البنها ولجميع املفقودين، فتنخرط فــي حــراكــات حقوقية عـــدة ال تـتـوقـف عند مسألة املفقودين، بل تتعداها إلـى قضايا أخرى تندرج تحت مطلب تحقيق العدالة. املــشــهــد األخــــيــــر، الــجــمــعــة 13ّ أيــــــار/ّ مـايـو ،2024 يــــوم وداعــــهــــا، وداع أم مـــن أمـــهـــات األرجنتينين، يـوم حزين آخر يضاف إلى أيام «باسا دي مايو».