تظاهرات إدلب إلى أين؟
يــنــتــج وجــــود الــســلــطــات األمــنــيــة الـحـديـديـة الــقــمــعــيــة، بــــالــــضــــرورة، حـــالـــة مــــن الــغــلــيــان واالمتعاض، سرعان ما تتحول إلـى موقف رفـــض جـــوانـــي داخـــلـــي كـــامـــن. وفـــي اللحظة التي تجد فيها حيوات الناس أنها وصلت نحو وضع لم يعد القبول به، ينفجر ذلك كله بقوة، عبر تعبيرات في الشارع واالنتفاض، ثم يتجاوز كل املعوقات واملوانع مهما كانت. الشعب السوري في محافظة إدلب، وهو الذي عـــاش سـابـقـًا تـحـت سـيـطـرة الـــدولـــة األمـنـيـة األســـديـــة، والـــخـــارج عـلـيـهـا مـنـذ عـــام ،2011 يوم جرى كسر الحاجز النفسي لهيمنة هذه السلطات األمنية، في جمهورية الخوف، قادر اليوم على أن يعبر عن رفضه أي سلطة مهما كانت قوية، ضمن متغيرات دراماتيكية لم يعد باإلمكان القبول بها، وهو ما حصل مع الـسـوريـني املتجمعني بـاملـاليـني فــي الشمال الـــســـوري، مــن خـــالل مــظــاهــرات عــمــت معظم البلدات واألريــاف في إدلب وما حولها، فقد راكمت سياسة القمع وكم األفواه الكثير مما اعتمل داخل الناس، وأنتجت أجواء من عدم الرضى، آثرت مناهضة أحوال منع الحريات، وخنق الكلمة، ولجم القلم، ومصادرة معظم الـــحـــريـــات الـــعـــامـــة الـــتـــي ضـــحـــى مــــن أجـلـهـا السوريون، بما ينوف عن مليون شهيد، منذ 13 سنة ونيف. يــضــاف إلـــى ذلـــك كــلــه واقــــع شــظــف الـعـيـش، وقلة فرص العمل، والعوز االجتماعي، وعدم وضـــوح آفـــاق جـديـدة للمستقبل، فـضـال عن تـسـلـط أدوات الـعـسـكـريـتـاريـا عـلـى مفاصل الـحـيـاة االجـتـمـاعـيـة واالقــتــصــاديــة للناس، وهـــو الــــذي ســاهــم فـــي مـــزيـــد مـــن االحــتــقــان، والــــرفــــض. ومــــن ثــــم، بــــدأ ّذلــــك كــلــه يتمظهر عبر تـظـاهـرات شعبية عـمـت بـلـدات سورية كــثــيــرة، خــــارج سـيـطـرة الــنــظــام، وبـالـتـزامـن مـع استمرار حالة الـحـراك وزخــم االنتفاض الشعبي الكبير الــذي جــاوز الثمانية أشهر في جبل العرب والسويداء جنوبًا. يـتـحـرك التظاهر الشعبي للناس فــي إدلــب تـــحـــت شــــعــــارات عــــــدة، مــنــهــا إنــــهــــاء هـيـمـنـة الـتـنـظـيـمـات الـعـسـكـريـة، الــتــي انـشـغـلـت عن مواجهة نظام بشار األسد، وهو كما يفترض هــمــهــا األســــاســــي بــمــســائــل أخــــــرى، طــاولــت حـــّريـــات الـــنـــاس، واالنـــقـــضـــاض عــلــى أمـنـهـم وأمـــانـــهـــم الـــيـــومـــي، وزج كـثـيـريـن مـنـهـم في املعتقالت والسجون، بدون حق، وخارج إطار الـقـانـون. مـا زالـــت هــذه الـتـحـركـات الشعبية الـسـلـمـيـة مــحــصــورة فـــي نــطــاقــهــا الـسـلـمـي، رغم القمع واالعتقال لبعض املشاركني فيها، حيث نالهم من قـوى األمـر الواقع ما نالهم،
لكن التظاهر كما يبدو ما زال مستمرًا ضمن حراكه الذي لم يعد يخيفه شيء. ولكن ال بد من القول أيضًا إن هذه الهبة الشعبية، التي انـطـلـقـت مـــن جــوانــيــة املــعــانــاة والـتـهـمـيـش، وفـــــي ســـيـــاق مـــــســـــارات مـــتـــوقـــفـــة، وانــــســــداد لــــآفــــاق، وضـــمـــن حـــالـــة االســتــنــقــاع الــكــبــرى للمسألة السورية، التي يعيشها الناس في إدلـــب وســـواهـــا، لــم تـعـد وحــدهــا مــا ينغص صفو البشر في «الـشـارع اإلدلـبـي»، إن صح التعبير، حيث استغلت هــذا الــحــراك بعض (أو بـقـايـا) الـفـصـائـل الـعـسـكـريـة املـعـارضـة، التي سبق أن جـرى اإلجـهـاز عليها، وإنهاء وجـــــودهـــــا الـــعـــســـكـــري فــــي إدلــــــــب، ملـصـلـحـة تـوسـعـة وجـــود فصيل واحـــد وهيمنته هو هيئة تحرير الــشــام. ومــن ثـم تحركت بقايا هـــــذه الـــفـــصـــائـــل املــــتــــفــــرقــــة، والــــخــــارجــــة مـن السجون واملعتقالت، لكن التحرك مدنيًا هذه املرة، وبالتأكيد يضاف إليها بعض عناصر حـــزب الـتـحـريـر اإلســالمــي الـقـديـم/ الـجـديـد، وصــــــوال إلــــى غـــايـــات وأهـــــــداف أخـــــرى قـــد ال تتقاطع، بــالــضــرورة، مــع متطلبات الـحـراك الشعبي املدني الكبير، والصادق فيما يعمل من أجله. إلـــى أيـــن يـمـكـن أن تــذهــب هـــذه الــتــظــاهــرات؟ وهـــــــل يـــمـــكـــن أن تـــــتـــــحـــــول إلـــــــى انـــتـــفـــاضـــة شعبية عــارمــة، بعد أن دعــا منظموها إلى اعتصامات كبرى وعصيان مدني؟ ثم ما هي احتماالت أن يتغير املسار ويحدث االنزياح األكبر نحو العسكرة، وبعدها تفتح أبـواب جــهــنــم، كــمــا يـــقـــال، أو أن يـسـتـغـل ذلــــك كله النظام الذي يتربص بالشمال السوري، منذ فــتــرة، وهــو الـــذي انتهك مـئـات املــــرات اتفاق وتــفــاهــم 5 مــــارس 2020 الــــذي رعــتــه تـركـيـا وروسـيـا الـخـاص بـإدلـب، ومـــاذا عـن الوضع الــــدولــــي واإلقـــلـــيـــمـــي هــــل أضـــحـــت الـــظـــروف مـــواتـــيـــة لـــتـــغـــيـــرات مــــا فــــي خـــريـــطـــة الـــواقـــع املـــؤقـــت فـــي إدلـــــــب؟. هــــذه األســـئـــلـــة وغــيــرهــا
جــديــة ومـوضـوعـيـة، وتضعنا جميعًا أمــام احــتــمــاالت وطـنـيـة ســـوريـــة جــمــة، وتـغـيـرات محتملة قد تطاول وقائع كثيرة. يـــــبـــــدو أن املــــــظــــــاهــــــرات فــــــي تـــــطـــــور نــحــو التصعيد، ولــن يـكـون بـاإلمـكـان لجمها أو إنهاؤها، حتى لو استعملت هيئة تحرير الـــشـــام كـــل أدواتــــهــــا األمـــنـــيـــة والــعــســكــريــة، وكــل قوتها العسكرية وتخويفها للناس بـــالـــســـجـــون، والــــضــــرب بــيــد مـــن حـــديـــد، أو توجيه التهم بالخيانة، وخدمة األجندات الـــخـــارجـــيـــة، كـــمـــا درجــــــت الــــعــــادة لـــــدى كـل األنظمة والسلطات، في مواجهة التحركات الشعبية، لكن املنتفضني ما برحوا يصرون على املتابعة والتصعيد. ولكن احتماالت أن تتحول املظاهرات إلى انتفاضة شعبية عارمة، وعصيان مدني شامل يقتلع جذور الــفــصــائــل الــعــســكــريــة، أو يــعــيــد إنـتـاجـهـا عـلـى أســـس جـــديـــدة، مــا زال غـيـر مـمـكـن ملا لدى هيئة تحرير الشام من قوات عسكرية مـــــدربـــــة، وقــــــــرار مــــركــــزي ســـيـــاســـي وأمـــنـــي وعسكري قوي وأوحــد، ال يحتمل املماطلة وال الــتــســويــف، ويـمـسـك بـتـالبـيـب الـوضـع فـي إدلــب بقبضة حديدية وصبغة دينية، ال تـقـبـل الــــرأي اآلخــــر، وال املــهــادنــة مــع من يتحرك ضدها.
سوف تستمر تظاهرات إدلب، وقد تزداد اطرادًا من دون أن يؤثر ذلك موضوعيًا على حالة السلطة األمنية