«عبارات الطوفان» ومعارك سـردياته
يُذّكر التحليل الذي أجراه الصحافي التونسي في كتابه الصادر حديثًا عن «دار نيرفانا»، بأهميّة الكلمات ودورها في صنع جبهة تخاض من خاللها حرب ثانية ال تقل تداعياتها عن اإلبادة الصهيونية القائمة على األرض، بتواطؤ إعالمي وخطابي غربي
بـالـتـوازي مـع حــرب اإلبـــادة التي تدور رحاها في فلسطي، تستمر مــــــعــــــارك الــــــــروايــــــــات والـــكـــلـــمـــات لــتــبــريــر فـــظـــاعـــات األرض وتــمــريــرهــا لــدى الرأي العام. وال يقل خطاب التبرير هذا فتكا عــن الــحــرب املـلـمـوسـة، ألنـــه يـتـحـول بـــدوره إلــى دوافـــع أيديولوجية و«قــيــم» سياسية، تـتـبـنـاهـا الــســلــطــات الــحــاكــمــة، فتترجمها إلــــى أعـــمـــال مــــاديــــة؛ وبـــذلـــك تــغــدو الــحــدود دقيقة بي آثار الكلمات وذاكرتها وهمجية الـطـائـرات وذخـائـرهـا القاتلة، ألن أحدهما يــــــؤدي ضــــــرورة إلــــى اآلخـــــر. هــــذه الـجـدلـيـة الخفية هي التي سعى الباحث والصحافي الـتـونـسـي بــســام بــونــنــي إلـــى تحليلها في كـــتـــابـــه األخــــيــــر «عـــــبـــــارات الــــطــــوفــــان: حـــرب الكلمات والـسـرديـات»، الـصـادر مـؤخـرًا عن «دار نيرفانا». ينقسم الكتاب، وقـد تجاوز املائتي صفحة، إلى فصول قصيرة، يحمل كل واحد منها عنوانا مقتبسا من املقوالت الــــتــــي شــــاعــــت بـــــي الـــــنـــــاس وســــــــــارت عــبــر وسـائـط تواصلهم وإعالمهم سير األمثال والعبارات الناجزة، بعد أن اختزلت تجارب مـــــن أطـــلـــقـــوهـــا خــــــالل «طـــــوفـــــان األقــــصــــى» ومــــن ذلـــــك: «قــــاطــــعــــوا»، «مـــعـــلـــيـــش»، «روح الــروح»؛ وغيرها مما أطلقه الجانب اآلخر، كـ «حيوانات بشرية». وقد عاد الباحث إلى عدد من هذه العبارات بـغـرض تحليل ذاكـراتـهـا الـداللـيـة وتفكيك مــا انــطــوت عليها مــن رهـــانـــات مــركــبــة، ثم مـــا نـهـضـت بـــه مـــن وظـــائـــف ضــمــن مـعـركـة الــــســــرديــــات املـــســـتـــعـــر أوارهــــــــا تـــزامـــنـــا مـع مــــعــــارك غــــــزة. وهـــــكـــــذا، يـــتـــوســـل الــتــحــلــيــل الـــذي أجـــراه بـونـنـي، وإن لــم يــصــرح بذلك، باملنهج الـتـداولـي البراغماتي الـــذي ينزل الـــعـــبـــارات والـــنـــصـــوص ضــمــن سـيـاقـاتـهـا التلفظية األصلية لدراسة آثارها في الواقع وتبعاتها على تغيير كل من الوعي والواقع الـذي يحتضنه ويفعل فيه. وال شك في أن الباحث قد انتقى من عبارات الطوفان تلك الـتـي تنخرط بـوضـوح فـي تــصــارع الــرؤى والتنافس الــرمــزي لـلـروايـات، والـتـي يريد كـل طـرف تحقيقها على أرض املـيـدان، هذا امليدان الذي امتدت ساحاته لتشمل الوعي والــــصــــورة والـــخـــطـــاب والــــــرأي الـــعـــام، بعد أن تـــعـــددت وســـائـــل الــتــواصــل مـــن رسـمـيـة وغير رسمية وتنوعت طرق الوصول إليه مخاطبة وتوجيها. وهـــذا مــا يكشف الـسـتـار عــن مـهـمـة جـديـدة، على املـثـقـف الـعـربـي أن يضطلع بـهـا، وهي تــفــكــيــك خــلــفــيــات ذاكــــــرة الــكــلــمــات وآثـــارهـــا الراهنة مـع استشراف آفاقها ومــا يمكن أن تحدثه من اآلثـــار. فتحليل الخطاب وفضح غاياته وأساليبه وأبنيته وما يمارس عبره مـن تضليل هـو الـيـوم مـن عـاجـل الواجبات. وقــــد نــهــض بــهــا ألــســنــيــون مـــشـــهـــورون، من بينهم نعوم تشومسكي وفرنسوا راستي، وحتى إدغار موران في أبحاثه االجتماعية، كـــمـــا تـــفـــنـــن فــيــهــا بـــاحـــثـــون عـــــرب ال يــقــلــون عنهم عمقا وأصالة. يبي الباحث التونسي فــي كـتـابـه أســبــاب اخــتــيــار عـــبـــارات بعينها دون غيرها، ال معايير ذلـك االختيار بشكل صــــارم، مـمـا جـعـل الـكـتـاب فــصــوال متعاقبة دون منطق داخلي متي. وعسى أن يواصل باحثون آخرون هذا العمل في دراسات أشمل تغطي كــل املــفــردات والـعـبـارات الـتـي ظهرت خالل هذا العدوان وأثرت في مجرياته، وذلك بعد تصنيفها وجدولتها حسب أجناسها وآثـــــارهـــــا مــــن أجـــــل مــــزيــــد مــــن الـــتـــحـــكـــم فـي حقولها الـداللـيـة وتـرشـيـد استخدامها، بل وتدقيقه بحسب الفصول والغايات. وهــكــذا، فـالـرهـان املـعـرفـي الـــذي انبنى عليه الكتاب هو التذكير بأهمية الكلمات وخطر الــــســــرديــــات فــــي صـــنـــع جــبــهــة تــــخــــاض مـن خـاللـهـا حـــرب ثـانـيـة ال تــقــل تـداعـيـاتـهـا عن الحرب امللموسة، ومن ذلك تخلص الباحث إلى التنويه بأن «إسرائيل» - وليس هذا من بــاب االنـهـزامـيـة - قــد قطعت أشــواطــا كبرى في حرب السردية هذه، وتمكنت من التأثير الـــبـــالـــغ فــــي الـــعـــقـــل الـــغـــربـــي عـــبـــر «جــــنــــوده» مـــن اإلعـــالمـــيـــي والـــســـيـــاســـيـــي والـــلـــوبـــيـــات التي تمولها؛ وكلهم يلقفون هــذا الخطاب ويـــتـــبـــنـــونـــه ثــــم يـــعـــيـــدون إنـــتـــاجـــه وتــــكــــراره عــبــر خــــوارزمــــيــــات خــفــيــة مـــن أجــــل احــتــالل العقول وفرض رؤية نسقية واحـدة، تتفاعل عناصرها فـتـوظـف دفـعـة واحــــدة، بحيث ال يبرز عنصر دون استدعاء العناصر األخرى. كـل هـذا يهدف إلـى خلق نسق من األوهــام، قد تدعمه حقيقة يتيمة أو نصف حقيقة، تضخم من أجل خلق ما يسميه نقاد األدب vraisemblance أو اإليهام بالواقعية. ولئن أشـــــار غــيــر بـــاحـــث إلــــى قـيـمـة الــكــلــمــات في هـــذه الـــحـــرب، بــل وفـــي غـيـرهـا مــن املــعــارك، فـإن جــدة هـذا الكتاب تكمن في تخصيص مبحث كامل يعود إلى أبـرز العبارات دون االقـتـصـار على السجل الفصيح الرسمي، وألجـــل ذلــك لــم يـتـحـرج الـبـاحـث مــن إدمــاج الـعـديـد مــن الــعــبــارات الـــدارجـــة الـتــي قيلت
ُّ عفو البديهة، تنفيسا عن كرب الفقد وحتى عــبــارات إنـكـلـيـزيـة مـثـل Do you condemn ؟Hamas وغــيــرهــا مـــمـــا وظــــــف فـــي مـعـركـة الـــــدالالت وجــبــهــات الـتـنـافـس الــقــولــي. هـذا األمـــــر جــعــل الــــدراســــة أقـــــرب إلــــى اسـتـكـنـاه الّرصيد الخطابي الذي المس وعَي املاليي ضمن الجمهور العربّي بمختلف شرائحه وحساسياته. من جهة ثانية، تميزت هذه الـــدراســـة بـتـوظـيـف نـــص جــامــع Paratexte أوســــع مــن كـــالم طــرفــي الـــنـــزاع املـبـاشـريـن، نـص يتضمن خطابات القادة السياسيي واإلعــــالمــــيــــي واملـــــؤثـــــريـــــن حـــتـــى مــــمــــن لـم يــنــخــرط مـــبـــاشـــرة فـــي «طــــوفــــان األقـــصـــى» وال اكـتـوى بحممه، مـمـا سـاعـد فـي تفكيك مفهومي، ينزل الكلمات في مقامات أدق. وألجـــــل هــــذا الـــغـــرض اســـتـــعـــان الــصــحــافــي الـتـونـسـي بــونــنــي بـالـعـديـد مـــن الـــدراســـات األلسنية واالجتماعية لسبر أغوار الدالالت الـلـغـويـة والـسـيـاقـيـة الــتــي تـنـشـأ ّمــنَ خـالل استخدام اللغة، مثل ذخائر حقيقية، تنفجر بعد إرسالها من أفواه املدافع والرشاشات، فكل كلمة عبارة عن ذخيرة حية، تنطلق من مكمنها لتصيب هدفها أو لتخطئه، مخلفة ال مــحــالــة عـــــددًا مـــن الــضــحــايــا والــشــظــايــا. فــالــكــلــمــات ذخـــائـــر حـــيـــة تــصــيــب مـقـاتـلـهـا إن ســـــددت بـــدقـــة، وهـــي أنــــواع ذات أحـجـام ومـــديـــات مــتــفــاوتــة. ولــكــل جـنـس تـداعـيـاتـه
اكتناه لرصيد خطابي المس وعي الماليين حول العالم
معركة امتدت ساحاتها لتشمل الوعي والصورة والرأي العام
عـلـى الــوعــي والــفــعــل؛ وهــمــا مــتــالزمــان. في املـــاضـــي، كـــانـــت الــكــلــمــة املـــقـــدســـة هـــي الـتـي تضفي على التاريخ طابع التعالي وتقود الوعي إلى الهدى والتحرر. واليوم، تسوق كلمات السياسة الـوعـي إلــى الـضـالل. ومن الـــالفـــت أن يـــشـــتـــق مـصـطـلـح «الــتــضــلــيــل»، تــرجــمــة ملـفـهـوم مــهــم فـــي األنـثـروبـولـوجـيـا السياسية وهو ،manipulation من عي هذا الجذر، تأكيدًا أن املعركة في عمقها معركة قـيـم، خسرها الـغـرب بكل املقاييس وسقط فـيـهـا بمثقفيه وصــانــعــي خـطـابـه سـقـوطـا مريعا. وهو ما أبان عنه «طوفان الكلمات». هـــذه الــعــبــارة هـــي أيـــضـــا «اســـتـــعـــارة حــيــة»، بـــمـــا يـــحـــمـــل الــــطــــوفــــان مـــعـــه - حــــي يـــطـــمـــي
- مـــن تـــراكـــمـــات الـــصـــور الــبــالــيــة وادعـــــــاءات «إسرائيل» والغرب املضللة، وها هو يجرف بفضل صـدق كلماته وبــراءة مـن أطلقها من املضطهدين كل البناءات الخطابية املعقدة ومرتكزاتها الواهية التي بنتها خـداعـا آلة الدعاية اإلسرائيلية. إنها «نفثات مصدور» صــمــدت فــي وجـــه أزيــــز الـــدبـــابـــات الـغـاشـمـة. وكم من كلمة أصابت، «ومن املسافة الصفر»، مــقــتــال فـــي أبــاطــيــل الـــســـرديـــة املـــنـــاوئـــة. ومــا تحرك جماهير الطالب وأساتذتهم إال دليل قــاطــع عـلـى نـفـاذ هـــذه الـكـلـمـات وأن سـرديـة مختلفة ممكنة وضرورية.