Al Araby Al Jadeed

بترا سرحال: ألّن الرائحة ال يمكن احتاللها

- بيروت ـ أمل كعوش

في قاعة صغيرة بيضاء في مدينة بيروت، تــجــلــس بـــتـــرا ســـرحـــا­ل إلــــى طــــاولــ­ــة، يكسر صمتها طـيـف فــوضــوي مــن زهــــور مـلـونـة وأوراق تــــي وبـــرتـــ­قـــالـــة. تــشــحــذ الــفــنــ­انــة سكينها الصغيرة لتقشر الثمرة الوردية، وبــــي ثــنــايــ­ا قــطــعــة قـــمـــاش قــطــنــي بـيـضـاء تسكن األزهار قبل أن تسحقها بترا بحجر أمـلـس، فيصطبغ الـبـيـاض بــألــوان الـزهـور القانية، وينتشر عطرها في فضاء املكان. «هـنـاك حيث رائـحـة الـلـيـمـو­ن»، هـو عنوان املشروع التفاعلي الجديد للفنانة متعددة االختصاصات، بترا سرحال، الذي عرضته على مدى يومي في قاعة غاليري Takeover Beirut فــــي الـــثـــا­نـــي والــــثــ­ــالــــث مــــن الــشــهــ­ر الـحـالـي، أمـــام حـضـور زارهــــا عـلـى دفـعـات؛ أوال لــضــيــق املـــســـ­احـــة، وثـــانـــ­يـــًا واألهـــــ­ـم ملا يتطلبه العرض من حميمية. العرض هذا هـو بـدايـة ملـشـروع قيد التطوير لسرحال، بدأته بمقابات أجرتها مع فلسطينيي من داخل األرض املحتلة، وآخرين من مخيمات لـبـنـان، ممن عــرفــوا بــادهــم قبل النكبة أو عرفوها من خال ذويهم األكبر جيا. سعت املقابات إلى رسم خرائط ملدن وقرى فلسطينية عبر الرائحة. تسألهم بترا عن املكان وعناصره، وتحاول أن تتخيل شكل الـرائـحـة املـــوجــ­ـودة فـيـه، ثــم تجمع أعشابًا وزهــــورًا لتستخرج منها الـرائـحـة والـلـون عـلـى الــقــمــ­اش، مــجــســد­ة خــرائــط لفلسطي تتبعها العي واألنـــف. الــروائــ­ح فـي «هناك حيث رائحة الليمون» ال تحمل فقط عبير الـــزهـــ­ور، بــل تــحــاول الـفـنـانـ­ة أيــضــًا تركيب

روائـــح ملــدلــوا­لت كـرائـحـة الــخــوف، ورائـحـة الــحــاجـ­ـز اإلســرائـ­ـيــلــي، ورائـــحــ­ـة الـبـحـيـر­ات والبيت. يرافق هذا العرض الحسي تسجيل صــوتــي لـبـرنـامـ­ج «صـــوت فـلـسـطـي» الــذي كــــان يـــبـــث عــلــى إذاعــــــ­ة صــــوت الــشــعــ­ب من بيروت، وكان يضم دومًا فقرة تتحدث عن مـنـاطـق فــي فلسطي مــن منطلق تاريخي وجغرافي وآني. «كنت أستمع إلى البرنامج وأشـعـر بحاجة ألن أحـفـظ أسـمـاء املناطق فـــــي فـــلـــسـ­ــطـــي، أنــــــا املـــمـــ­نـــوعـــة مـــــن دخـــــول أراضـيـهـا»، تقول بترا املـولـودة في بيروت لعائلة مــن جـبـل لـبـنـان زرعـــت فيها عاقة وطيدة بفلسطي وقضية شعبها. يـــتـــوا­فـــد الـــحـــض­ـــور لـــخـــرا­ئـــط شـــفـــا عـــمـــرو، والـــقـــ­دس، وغــــزة وغــيــرهـ­ـا، يـسـتـمـعـ­ون إلـى حكايا بترا بكثير مـن االهتمام واألسئلة. تشاركهم مضيفتهم قصصًا ممن قابلتهم، فتحكي مثا قصة امـــرأة مـن سـكـان مخيم عـــي الـــحـــل­ـــوة لــاجــئــ­ي الـفـلـسـط­ـيـنـيـي في جـنـوب لـبـنـان، حكت لها عــن ذكـــرى رائحة والــدتــه­ــا. «أغــمــضــ­وا أعـيـنـكـم»، تطلب بترا مـــن الـــحـــض­ـــور، ثـــم تـــمـــر عــلــيــه­ــم فـــــردًا فـــردًا حاملة قماشة تحمل فتاتًا من كعك العيد. تقربها من أنوفهم ليتنشق زوارهــا رائحة األم الراحلة. هي ليست فقط رائحة شوارع فلسطي املحتلة، بل رائحة الذاكرة ما بي الوطن والشتات، تلك الذاكرات الفردية التي بمجموعها تشكل خريطة كبيرة محطاتها أنفاس الفلسطينيي؛ الاجئي منهم ومن بــقــي داخــــل الـــبـــا­د، وامـــتـــ­دادهـــا عــلــى مــدى انتشار الرائحة وحكاياتها. ليست تلك املرة األولى التي تعمل بها بترا سرحال على مشروع عماده حاسة الشم، أو ما يعرف بالفنون الشمية Arts( ؛)Olfactory فقد سبق أن قدمت في مركز بيروت للفن، فــي أكـتـوبـر/ تشرين األول ،2023 تجهيزًا فنيًا أدائيًا بعنوان «أو حي غفوت لثمانية عــشــر نـــهـــارًا ولــــيـــ­ـا»، أخـــــذت فــيــه ســرحــال الـــحـــض­ـــور فــــي رحـــلـــة عـــبـــر مـــتـــاه­ـــة مــــا بـي الروائح والصوت والرقص؛ إذ تناولت فيه الفنانة أثر االنهيار االقتصادي والسياسي في بيروت على وظائف الجسد. حــاســة الــشــم لـــدى ســرحــال تـشـكـل هاجسًا مــنــذ طــفــولــ­تــهــا، وهــــي بــمــثــا­بــة بـوصـلـتـه­ـا الــحــركـ­ـيــة، وقـــد أدركــــت ذلـــك بـعـد إصابتها بــفــيــر­وس كـــورونــ­ـا وفــقــدان­ــهــا حــاســة الـشـم ملـــدة أســـبـــو­ع، مـــا شــكــل عــائــقــًا أمــامــهـ­ـا. إثــر ذلــك، أولــت الفنانة اهتمامًا أكبر بصناعة الــروائــ­ح وكيفية توظيفها فــي إطـــار الفن، قـــاصـــد­ة فــرنــســ­ا لــتــعــل­ــم صــنــاعــ­ة الــعــطــ­ور، سعيًا منها إلى الوصول إلى محاوالت خلق رائحة األماكن واملــدن. لتلك املسألة دالالت اجتماعية سياسية تـاريـخـيـ­ة أيــضــًا. ففي املـقـابـا­ت الـتـي أجـرتـهـا بـتـرا مــع أشخاص مــن غــــزة، أخــبــروه­ــا بـــأن الــرائــح­ــة املنتشرة في شـوارع غـزة هي رائحة السيرج؛ الزيت املستخدم لقلي الفافل.

تولي الفنانة اهتمامًا بالروائح وكيفية توظيفها في إطار الفن

 ?? (ليفا سودرغيت) ?? من العرض
(ليفا سودرغيت) من العرض

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar