النكبة مستمرة
مأساة غزة في الذكرى الـ67 الحتالل فلسطين
يعيش سكان قطاع غزة ظروفًا مأساوية بالتزامن مع مرور 76 عامًا على النكبة الفلسطينية التي عاشوا خاللها شهورًا طويلة متتالية من حياة التهجير داخل الخيام ومراكز اإليواء واللجوء
يــــتــــعــــرض عــــــشــــــرات اآلالف مــن ســكــان قــطــاع غـــزة مـنـذ أكــثــر من ســبــعــة أشـــهـــر مــتــواصــلــة للقتل والتدمير والتهجير على غـــرار مـا واجهه أجدادهم خالل النكبة الفلسطينية في عام ،1948 وهـــم مــعــَّرضــون لـلـجـوع واألمــــراض وتبدل الطقس بني الحر والبرد واألمطار، بينما ال أحــد تقريبا يـحـاول حمايتهم أو إنقاذهم. ومع حلول ذكـرى النكبة، وصلت نــســبــة املـــهـــجـــريـــن فــــي قـــطـــاع غـــــزة إلـــــى 95 فــي املــائــة، ويـسـتـذكـر بعضهم كـيـف كـانـوا يـحـيـون هـــذا الــيــوم خـــالل األعــــوام السابقة على الــعــدوان، فكان البعض يشاركون في املـــســـيـــرات حــامــلــني مــفــاتــيــح املــــنــــازل الــتــي ورثوها من أجدادهم، والوثائق التي تثبت ملكيتهم لـأراضـي التي سلبها االحـتـالل، وبــعــض املـقـتـنـيـات املــرتــبــطــة فـــي ذاكــرتــهــم بـالـنـكـبـة، وقـــد حـــرص بـعـضـهـم عـلـى حمل تلك املفاتيح والوثائق واملقتنيات في رحلة النزوح املتكررة خالل العدوان الحالي. ويحلم آالف مـن املهجرين حاليا بالعودة إلــــى املــخــيــمــات الـــتـــي أقـــــام فـيـهـا أجـــدادهـــم بــعــد الــنــكــبــة، والـــتـــي بـــاتـــت الــــعــــودة إلـيـهـا صـــعـــبـــة، إمـــــا بــســبــب الـــــدمـــــار، وإمــــــا بـمـنـع االحــتــالل عـودتـهـم. وقـــد شـهـدت املخيمات الفلسطينية الثمانية التي أنشأتها وكالة غــــوث وتــشــغــيــل الـــالجـــئـــني الـفـلـسـطـيـنـيـني «أونـــــروا» فـي قـطـاع غــزة تهجيرًا كـامـال أو جزئيا، وكان آخرها مخيم رفح الكبير الذي غـــادره اآلالف خــالل األســبــوع املـاضـي بعد الهجمات اإلسرائيلية. كــان محمد الجزار أحـد املهجرين من مخيم «يبنا الشابورة» فــــي مـــديـــنـــة رفــــــح، بـــعـــد أن وصـــــل الــقــصــف اإلسرائيلي إلى محيط منزله، وبعد تهديد سكان املخيم الــذي عـاش فيه أجـــداده، رغم أن املخيم يعتبر من بني األكثر تهميشا، ولم تجدد منازله الرديئة منذ عشرات السنني، وغالبيتها أسقفها من اإلسبست. فــقــد الـــجـــزار 40( ســـنـــة) أعــــــدادًا كــبــيــرة من أفراد عائلته في مدينتي رفح وخانيونس نتيجة القصف اإلسرائيلي، ثم أجبر على تــرك املـنـزل الـــذي يعيش فيه منذ طفولته، والـــذي عــاش فيه جــده عـمـار الــجــزار، الـذي تــــوفــــي فــــي عـــــام .2004 يــــقــــول لــــ«الـــعـــربـــي الـجـديـد»: «تـعـود أصــول عائلتي إلــى قرية يبنا، التي تعد من أكبر قرى مدينة الرملة املـحـتـلـة بـــني مــديــنــة يــافــا واملــــجــــدل. أشـعـر بحزن شديد ألنني أجبرت على ترك املنزل الـــــذي يــضــم كـــل ذكـــريـــاتـــي مـــع جــــدي الـــذي قــام برعايتي منذ طفولتي، وحفظت منه حــكــايــات الــنــكــبــة، وقــصــص الـــخـــذالن الـتـي عايشها املــهــجــرون حينها، خـصـوصـا في مدينة رفح التي كانت تضم ثكنات عسكرية للجيش املصري قبل حرب النكسة في عام .»1967 نـــزح الـــجـــزار إلـــى منطقة املــواصــي غـــربـــي مــديــنــة خـــانـــيـــونـــس، بــعــد أن طـالـب االحتالل سكان مخيم الشابورة باملغادرة، وذلك بعد يومني من تهديده سكان املنطقة الـشـرقـيـة مــن مـديـنـة رفـــح، وإجــبــارهــم على النزوح. لكنه اصطحب معه وثيقة صادرة عن «حكومة عموم فلسطني»، تؤكد أن جده لـديـه 6 دونــمــات فــي املنطقة الشمالية من قرية يبنا، وأنها كانت أراضي زراعية يزرع فيها القمح والشعير والخضر املوسمية. يوضح: «نكبتنا مستمرة في ظل استمرار الخذالن الذي حدثني عنه جدي قبل وفاته. نـــحـــن الــفــلــســطــيــنــيــني لــــم نـــعـــد نــعــيــش فـي األحـــــالم، وال ننتظر أن يــأتــي أحـــد لـيـدافـع عنا، أو يتدخل جيش عربي لحمايتنا من االحتالل. إسرائيل وراءهـا كل قوى العالم، أمــــا نــحــن فـنـمـلـك الـــحـــق، وهــــو مـــا يجعلنا أقــــويــــاء، وصـــامـــديـــن. لـــم يــكــن جــــدي يـؤمـن بالسالم مع االحتالل، وكان يقول إن السالم مـع املحتل يعني الـتـنـازل عـن الـحـق، وكـرر على مسامعي أنه بعد إبرام السالم املصري مع إسرائيل في كامب ديفيد، تيقن أنـه لن
يدخل أي جيش عربي قطاع غــزة لحماية الفلسطينيني، وهذا ما حصل بالفعل، ولو كــان جــدي حيا كــان سيبكي على حالنا». وعاش أهالي غزة قبل السابع من أكتوبر/ تـــشـــريـــن األول املــــاضــــي، ظــــروفــــا مـعـيـشـيـة قاهرة، خصوصا سكان مخيمات الالجئني، وكانت تشتد األزمات مع استمرار الحصار اإلسـرائـيـلـي، الـــذي أدى إلــى تفاقم البطالة والــفــقــر، وتــقــلــص الــتــمــدد الــعــمــرانــي لـعـدم القدرة على البناء، حتى تحولت املخيمات بـــعـــد 75 عـــامـــا مــــن الــنــكــبــة إلـــــى صــنــاديــق تــــتــــالصــــق فـــيـــهـــا املـــــــنـــــــازل، فـــــي حـــــني كــــان سكانها مرتبطون بها باعتبارها جزءًا من ذاكــرة التهجير والنكبة. وأطلق املهجرون الفلسطينيون عـلـى مخيمات قــطــاع غــزة، أو على أحيائها وشوارعها، أسماء قراهم املهجرة، فإلى جانب مخيم يبنا الشابورة في رفح، هناك حارة املسمية في مخيم دير الـبـلـح، نسبة إلـــى قــريــة املـسـمـيـة، ومنطقة مصلح في مخيم املـغـازي، التي نـزح منها أحمد مصلح أخيرًا. يقول مصلح 38( سنة) لـ«العربي الجديد»: «حــتــى لــو كــانــت رائــحــة املـخـيـم كـريـهـة في فصل الشتاء، واملعيشة فيه صعبة في ظل الحر الشديد في الصيف، إضافة إلى الكثير
من املعوقات الحياتية، إال أنني حاليا أحلم بالعودة إليه. العدوان اإلسرائيلي الحالي غــيــر الـكـثـيـر فـــي نــفــوس ســكــان غــــزة، ومــن بني ذلك نظرتهم إلى املخيمات التي تحمل رائحة األجداد، ورائحة فلسطني التاريخية بكل تفاصيلها، فالشارع الضيق في املخيم يـــوجـــد فــيــه شــــعــــارات كـــثـــيـــرة، مـــن مـفـاتـيـح الـــــعـــــودة إلـــــى خـــريـــطـــة فــلــســطــني الـــكـــامـــلـــة، واملــنــزل الصغير فــي املـخـيـم بالنسبة إلــي أفضل من قصر خارجه، فنحن نعيش على أمل العودة إلى ديارنا التي هجر االحتالل
أجدادنا منها، قد ال أعود إليها أنا، لكن قد يعود إليها ابـنـي». يضيف: «تعود أصول عـائـلـتـي إلـــى قــريــة الـبـطـانـي الـغـربـيـة التي تبعد عشرات الكيلومترات عن قطاع غزة، وكـــان لـديـنـا مــنــزل مــن الـحـجـر، وقـــد كبرت وأنـــا أحـلـم بـالـعـودة إلــى هــذا املــنــزل، ألنني كنت أسمع من كبار العائلة أنه حجر طيني صلب يقاوم الظروف املناخية، وقد ورثت الكثير مــن حـكـايـات جـــدي الـــذي تـوفـي في عـــام ،2010 والــــذي كـــان يبكي كلما تحدث عـــن الـــعـــودة، وكــــان يــريــد املــــوت فـــي منزله وفـي قريته». يعيش الـنـازح حسني ياسني 40( سنة) حاليا في خيمة أنشأها أشقاؤه فــــي مــخــيــم ديـــــر الـــبـــلـــح، ويــــؤكــــد أنـــــه حـمـل معه مفتاح منزل جــده الــذي يمأه الصدأ فــي رحـلـة نــزوحــه الـسـابـعـة خـــالل الــعــدوان اإلسرائيلي الحالي، وهو املفتاح الذي ورثه من والده الذي توفي في عام ،2015 وانتقل به في أثناء النزوح من مخيم الشاطئ غرب مــديــنــة غــــزة ضــمــن حـقـيـبـة تــضــم الــوثــائــق الرسمية واملال. يقول ياسني لـ«العربي الـجـديـد»: «تنتمي عائلتي إلى قرية الجورة املوجودة بالقرب مــــن مـــديـــنـــة املــــجــــدل عـــلـــى ســــاحــــل الـــبـــحـــر، وأحــــمــــل هـــــذا املـــفـــتـــاح دائـــــمـــــا، وأعــــــــرف أن مــنــزل جـــدي بــابــه خـشـبـي ومـطـلـي بـالـلـون األســـود، ووالـــدي شـاهـد املـنـزل عندما كان
ضمن العمال في الداخل املحتل عام ،1980 لكنه لـم يستطع االقــتــراب مـنـه، ألن شرطة االحـــتـــال مـنـعـتـه مـــن دخــــول املـنـطـقـة الـتـي فيها مستوطنون صهاينة سرقوا منازلنا وأراضـــيـــنـــا. حــالــيــا ال أعــــرف إن كـــان مـنـزل جدي ال يزال قائما، لكن ما أعرفه أنه حتى لــو هـــجـــرت إلـــى أبــعــد الـــبـــاد، فــهــذا املفتاح دليل على حقي». وحسب بيانات الصليب األحــمــر الـــدولـــي، فـــإن نـحـو 200 ألـــف الجـئ فـلـسـطـيـنـي وصـــلـــوا إلــــى قـــطـــاع غــــزة وقــت الـنـكـبـة لـــوجـــود ارتـــبـــاطـــات عـائـلـيـة، وعـلـى اعــتــبــار أن غـــزة كــانــت الــطــريــق إلـــى مـصـر، وعـلـى أن يـكـون ذلــك ضمن مرحلة مؤقتة، إذ كـــانـــت تــتــمــركــز الـــجـــيـــوش الــعــربــيــة في املنطقة للتصدي للعصابات الصهيونية، وقـــد نظمت نـقـاط تجمع للمهجرين على أمــل عودتهم مـجـددًا إلــى الــديــار. وفــي آخر إحـصـائـيـة لـوكـالـة «أونــــــروا» الــتــي أنشئت بـعـد الـنـكـبـة، وصــلــت أعــــداد الفلسطينيني املهجرين حول العالم إلى أكثر من 6 مايني فلسطيني مـن أصـل قـرابـة 750 ألـف الجـئ، مــن بينهم قــرابــة مـلـيـون 600و ألـــف الجـئ مسجلني لـدى الوكالة في قطاع غــزة، وهم يشكلون أكـثـر مــن 65 فــي املــائــة مــن سكان القطاع البالغني 2,4 مليون نسمة. وكشفت أرقــام جهاز اإلحصاء املركزي الفلسطيني (حكومي) أنه في الفترة بني عام 2004 وعام
وصلت نسبة المهجرين بسبب العدوان على غزة إلى 95 في المائة
يحلم المهجرون بالعودة إلى مخيمات عاش فيها أجدادهم بعد النكبة
،2022 غـــادر أكـثـر مــن 100 ألـــف فلسطيني قــــطــــاع غــــــزة مــــن دون عــــــــودة، ومــعــظــمــهــم ينتمون إلى عائات من املهجرين من قرى ومـــدن فلسطينية فـي عــام ،1948 والنسبة األكبر منهم حصلوا على حق اللجوء في دول أجـنـبـيـة. وتستمر حـركـة الــنــزوح في قطاع غزة في ظل العدوان الحالي، وتشير بــيــانــات وكــالــة «أونــــــروا» إلـــى أن هــنــاك ما يـقـارب 1,7 مليون شخص نـــازح يحتمون حاليا في ماجئ الطوارئ التابعة لها، أو للحكومة، أو في تجمعات عشوائية بالقرب من تلك املاجئ.