Al Araby Al Jadeed

هل تسقط أسطورة «معاداة السامية»؟

- علي أنوزال

مــفــهــو­م األســــطـ­ـــورة هــنــا لـــلـــدا­للـــة عــلــى أن «معاداة السامية» استعملت ضمن أساطير أخــــــرى مـــؤســـس­ـــة لــلــعــق­ــيــدة الــصــهــ­يــونــيــ­ة. ولـفـهـم أهـمـيـة هـــذه األســـطــ­ـورة الـتـي قامت عــلــيــه­ــا الـــســـر­ديـــة اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـيـــة ال بــــد مـن الـــعـــو­دة إلــــى بـــدايـــ­ة ظــهــور هــــذه «الـتـهـمـة» التي تستعمل «سالحا فعاال» إلخراس كل صاحب فكر منتقد للصهيونية وإلسرائيل ولــســيــ­اســاتــهـ­ـا وســـاســـ­تـــهـــا، وهــــي الـتـهـمـة الجاهزة التي يحاكم بها مناهضو جرائم إسـرائـيـل فــي غــــزة، وتـشـهـر بـاسـتـمـر­ار في وجه الغضب الشعبي الهائل ضد إسرائيل الــــذي يــجــتــا­ح جــامــعــ­ات الــعــالـ­ـم، بـــل أيـضـا ضد كل األصـــوات التي تجرؤ على انتقاد إسرائيل. لكن الحرب اإلسرائيلي­ة على غزة، وردود الـفـعـل الـعـاملـي­ـة ضــد الــجــرائ­ــم التي يرتكبها الجيش الصهيوني يوميا ضد الفلسطينين­ي في طريقها إلى إحداث تأثير جــذري في هـذا املفهوم الــذي اعتاد الكيان الصهيوني أن يقمع به منتقديه. وإذا كـان مـن تأثير فعلي إيجابي للحرب اإلجـــرام­ـــيـــة عــلــى غــــــزة، فــهــو هــــذا الــتــحــ­ول الــكــبــ­يــر فـــي رفــــض الـــســـر­ديـــة اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة الـــتـــق­ـــلـــيــ­ـديـــة الــــتـــ­ـي بـــــــدأ­ت أســـاطـــ­يـــر كــثــيــر­ة تـــأســـس­ـــت عــلــيــه­ــا تــتــهــش­ــم عــلــى صــخــرتــ­ه، ومـنـهـا تـهـمـة «مـــعـــاد­اة الـسـامـيـ­ة» الــتــي لم تـــعـــد تــخــيــف مــنــتــق­ــدي إســــرائـ­ـــيــــل، خــاصــة فـــي أوســــــا­ط الـــشـــب­ـــاب الـــغـــر­بـــي. ومــــن أجــل فـهـم مـــدى أهـمـيـة ســقــوط هـــذه األســـطــ­ـورة، تنبغي الــعــودة تاريخيا إلــى الــــوراء لفهم كيف تـأسـس عليها وجـــود إسـرائـيـل ومن أوجـــــده­ـــــا وأليــــــ­ة مــصــلــح­ــة وجـــــــد­ت. كــانــت البداية مع ظهور الفكرة الصهيونية خالل الــــقـــ­ـرن الـــتـــا­ســـع عـــشـــر داخــــــل املــجــتـ­ـمــعــات الـيـهـودي­ـة فــي وســـط أوروبـــــ­ا وشــرقــهـ­ـا من بولونيا حتى بيالروسيا مرورا بأوكرانيا وليتوانيا، ألنها كانت املجتمعات األكثر تجانسا توحدها اللغة العبرية وتجمعها الـــطـــق­ـــوس الـــديـــ­نـــيـــة الـــيـــه­ـــوديـــة املــشــتـ­ـركــة، وكـانـت هــذه املجتمعات تشكل مـا يسميه املؤرخ اإلسرائيلي شلومو ساند بالشعب العبري، وليس اليهودي، ألن ما كان يجمع بني سكانها اللغة والتقاليد قبل الدين. كـــانـــت تــلــك فـــتـــرة والدة الـــدولــ­ـة الــوطــنـ­ـيــة، أو الــدولــة القومية فـي أوروبــــا، وستسعى الـحـركـة الصهيونية إلـــى إنــتــاج أســطــورة «الـــشـــع­ـــب الــــيـــ­ـهــــودي» مــــن خـــــالل لــــي عـنـق بـــعـــض الـــنـــص­ـــوص الـــتـــو­راتـــيـــ­ة لـلـتـأصـي­ـل لوجود «شعب يهودي» منذ أكثر من أربعة آالف عام، هجره الرومان من أرضه وأصبح يعيش فـي الشتات، مـع العلم أن مؤرخني يــهــودًا يشككون فــي حـــدوث هــذه الهجرة. لكن ما كان يهم الحركة الصهيونية إيجاد حــافــز ديــنــي وتــاريــخ­ــي يــدفــع الــيــهــ­ود إلـى اعتناق فكرها وتبني نظرياتها. ومن أجل ذلـــك ســـوف تـسـتـغـل الــحــركـ­ـة الصهيونية تاريخ االضطهاد اليهودي في املجتمعات األوروبـــ­ـيــــة مــنــذ الــــقـــ­ـرون الـــوســـ­طـــى، حيث كــان الـيـهـود يعيشون فـي شبه غيتوهات مــنــعــز­لــة، لــتــغــذ­يــة أســـطـــو­رة خــلــق الـشـعـب الـيـهـودي. ومــع الـتـطـور الـــذي بـــدأت تعرفه أوروبـــــ­ــــا خـــــالل فــــتــــ­رة الـــــثــ­ـــورة الــصــنــ­اعــيــة سيهاجر يهود كثيرون نحو املدن بحثا عن الشغل، ويتحررون من سيطرة حاخاماتهم ويـحـتـكـو­ن بــاألفــك­ــار الـتـنـويـ­ريـة مـــن قبيل الــعــلــ­مــانــيــ­ة والــديــم­ــقــراطــ­يــة والـلـيـبـ­يـرالـيـة والـقـومـي­ـة واالشـتـرا­كـيـة الـتـي بـــدأت تظهر في أوروبـــا، خاصة الغربية، فكانت والدة الــصــهــ­يــونــيــ­ة نـتـيـجـة تــفــاعــ­ل عـــــدة عــوامــل تـمـثـلـت فـــي تــفــكــك الــغــيــ­تــوهــات الـيـهـودي­ـة واعتناق اليهود األفكار التنويرية وظهور مـــا تــســمــى «مـــعـــاد­ة الــســامـ­ـيــة» فـــي حلتها الـــجـــد­يـــدة، ألن مـــعـــاد­اة الــيــهــ­ود أو كرههم كــــانـــ­ـت مـــنـــتـ­ــشـــرة حــــتــــ­ى فـــــي املـــجـــ­تـــمـــعـ­ــات القديمة، ألسباب دينية مرتبطة بخالفات عــــقــــ­ائــــديــ­ــة بـــــني الــــيـــ­ـهــــوديـ­ـــة واملـــســ­ـيـــحـــي­ـــة، واخـــتـــ­الفـــات اجـتـمـاعـ­يـة مـرتـبـطـة بطبيعة األنـــشــ­ـطـــة الــتــجــ­اريــة الـــتـــي كــــان يـمـارسـهـ­ا الـــيـــه­ـــود، خــصــوصــ­ا فـــي املـــجـــ­ال املـــالــ­ـي، ما سوف يجر عليهم حقد (وكـره) املتعاملني مـعـهـم. كـمـا أن أمــــراء أوروبــــا الـفـيـودا­لـيـني، ومـــن أجـــل تنفيس غـضـب الـسـكـان ضدهم كـــانـــو­ا يـلـقـون بـالـالئـم­ـة فـــي األزمـــــ­ات الـتـي تحل ببلدانهم على اليهود الذين يتحولون إلـــى أهـــــداف لـلـقـتـل والـتـنـكـ­يـل مـــن الـسـكـان الغاضبني أو الغارقني في الـديـون، والتي يكون مصدرها التجار اليهود. وهكذا ظهر في القرون الوسطى مفهوم «بوغروم» في روسـيـا القيصرية، وهــو يعني بالروسية «الهدم بعنف» أو «عـاث فـسـادا»، ما يمكن أن نــتــرجــ­مــه بــلــغــة الــعــصــ­ر إلــــى «املــذبــح­ــة الجماعية» أو «اإلبــــاد­ة الجماعية»، وهي أفعال عنف وتقتيل واغتصاب واضطهاد وســـــرقـ­ــــة واســـــعـ­ــــة مــــوجـــ­ـهــــة ضـــــد الـــيـــه­ـــود انتشرت في كل أوروبا من أوكرانيا شماال حــتــى إســبــانـ­ـيــا جــنــوبــ­ا وذهــــب ضحيتها عـشـرات آالف مـن الـيـهـود. وكــان دعــاة هذه املـــوجــ­ـة مـــن الــعــنــ­ف ضـــد الــيــهــ­ود يـعـلـقـون كـل مشكالت شعوبهم على الـيـهـود. فكان الـفـيـودا­لـيـون واألرســتـ­ـقــراطــي­ــون يـــرون في اليهود خطرا عليهم، ويعتبرون أنهم وراء ثـــــورة شــعــوبــ­هــم وغــضــبــ­هــم ضـــدهـــم. وفــي املقابل، كان أوائل «اليساريني» األوروبيني يرون في اليهود الذين يحتكرون التجارة ســنــدا لــلــبــو­رجــوازيــ­ة الــرأســم­ــالــيــة حديثة الظهور، وسببا في تأخير قيام الـثـورات، وهكذا ستصبح «معاداة اليهود» مشتركة مـــا بـــني الــفــيــ­ودالــيــن­ي والـــثـــ­وريـــني، وســـوف تمتد عــدوى «مـعـادة اليهود» إلــى اليهود أنـفـسـهـم، خـصـوصـا الــبــورج­ــوازيــني منهم الـــذيـــ­ن كـــانـــو­ا يــخــشــو­ن مـــن هــجــرة الـيـهـود املضطهدين إلى دول غرب أوروبا وأميركا ألنها ستؤدي إلى تنامي مشاعر العنصرية ضد اليهود، وبالتالي تجر عليهم غضب الـــــســ­ـــكـــــا­ن األصـــــل­ـــــيــــ­ـني، وتــــــمـ­ـــــس مـــركـــز­هـــم االجتماعي داخل دول أوروبا الغربية التي اندمجوا فيها، وهـي الـــدول التي انتشرت فيها األفكار التنويرية، وسمحت لليهود املــحــظـ­ـوظــني الـــذيـــ­ن يــعــيــش­ــون داخــلــهـ­ـا أن يحظوا بنوع من املساواة مع باقي السكان. لكن، حتى هـذه الــدول لم تسلم من معاداة الــــيـــ­ـهــــود، وســـــــو­ف تـــظـــهـ­ــر فـــيـــهـ­ــا «مــــعــــ­اداة الــســامـ­ـيــة» بـشـكـلـهـ­ا الــجــديـ­ـد كــمــا نعيشه اليوم في عاملنا الحالي، أي معاداة اليهود بسبب دينهم وعرقهم، وليس فقط بسبب احـــتـــك­ـــارهـــم الــــتـــ­ـجــــارة، أو ألســــبــ­ــاب تــعــود للخالف العقائدي بني اليهود واملسيحيني حول مقتل السيد املسيح. وهـــكـــذ­ا ســيــبــر­ز فـــي أوروبـــــ­ـا الــغــربـ­ـيــة هــذا الـــنـــو­ع الـــجـــد­يـــد مـــن «مــــعــــ­اداة الــســامـ­ـيــة»، والـــذي تجلى أول مــرة وبشكل واضــح في قــضــيــة دريــــفــ­ــوس الـــتـــي قــســمــت املـجـتـمـ­ع الـفـرنـسـ­ي فــي نـهـايـة الــقــرن الـتـاسـع عشر، ويتعلق األمـر بضابط فرنسي من أصول يـــهـــود­يـــة صـــــدر فــــي حـــقـــه حـــكـــم قــــــاس فـي قـــضـــيـ­ــة تــــجــــ­ســــس اتــــضـــ­ـح فـــيـــمـ­ــا بــــعــــ­د أن القضاء واملؤسسة العسكرية تحامال عليه فقط ألصوله اليهودية، لتحميله خسارة

بدًال من أن يحل الغربيون مشكالت عقدهم بأنفسهم وفيما بينهم وعلى أرضهم، رموها على الشعوب العربية

فرنسا حربها ضد أملانيا في نهاية القرن الثامن عشر. وليس من املصادفات أن من بني الصحافيني الذين تابعوا تلك القضية التي هزت الرأي العام في أوروبا صحافيا يهوديا من النمسا اسمه تيودور هرتزل، سيصبح هو مؤسس الحركة الصهيونية الـعـاملـي­ـة الـتـي كـــان هـدفـهـا األســــاس إنـقـاذ يـهـود أوروبــــا مــن االضــطــه­ــاد الـــذي كـانـوا يواجهونه في حياتهم اليومية. لكن حركة هــرتــزل هــذه لــم تـغـيـر، فــي بـدايـتـهـ­ا، كثيرًا مـن واقــع اليهود املضطهدين فـي أوروبـــا. وبــــالــ­ــتــــالـ­ـــي، لـــــم تــــوقـــ­ـف هـــجـــرت­ـــهـــم غـــربـــا، خــصــوصــ­ا نــحــو أمــيــركـ­ـا وكـــنـــد­ا، أو نحو األفكار االشتراكية التي بدأت في التبلور واعــدة ببناء مجتمعات العدل واملـسـاوا­ة. أمــــا الـــبـــو­رجـــوازيـ­ــون الــيــهــ­ود فـسـيـجـدو­ن فـــي طــــرح الـصـهـيـو­نـيـة بـــنـــاء وطــــن قـومـي لليهود فكرة مغرية، كونها سوف تخفف من الـوجـود اليهودي في أوروبـــا الغربية وبـــالـــ­تـــالـــي، مـــن مــشــاعــ­ر مــــعــــ­اداة الــيــهــ­ود، رغـــــم أن بــعــضــه­ــم كـــــان يـــــرى فــيــهــا خــطــرًا عـلـى وجـــودهــ­ـم هــم أنـفـسـهـم فــي بـلـدانـهـ­م، وعلى وضعهم االجتماعي داخـلـهـا. ومع ذلـــك، لــم يــتــردد كـثـيـرون منهم فــي تمويل هـــجـــرة الـــيـــه­ـــود الـــفـــق­ـــراء مـــن دول أوروبـــــ­ا نــحــو فـلـسـطـني الــتــي اســتــقــ­ر رأي الـحـركـة الـــصـــه­ـــيـــونـ­ــيـــة عـــلـــى اخـــتـــي­ـــارهـــا «مـــوطـــن­ـــا قوميا» لليهود، العتبارات جيوسياسية، وأيـضـا بعد بـلـورة قناعة دينية توراتية لدفع اليهود املتدينني نحو الهجرة إليها. وهذا ما أدى إلى انتشار الصهيونية بني اليهود البورجوازي­ني في أوروبـا الغربية وفـــي أمــيــركـ­ـا وكـــنـــد­ا، لـيـس اقـتـنـاعـ­ا منهم بـــفـــكـ­ــرهـــا، وإنــــمــ­ــا دفــــاعــ­ــا عــــن مــصــالــ­حــهــم ومــواقــع­ــهــم االجــتــم­ــاعــيــة داخـــــل بــلــدانـ­ـهــم. ومـع ذلــك، ظل الوضع كما هو عليه حتى الـحـرب العاملية الثانية واكـتـشـاف العالم املــذابــ­ح الـتـي نفذتها الـنـازيـة ضـد اليهود لــتــتــض­ــاعــف حـــركـــة الـــهـــج­ـــرة أو بـــاألحــ­ـرى «الهروب» اليهودي من أوروبـا نحو فكرة الـــوطـــ­ن الــقــومـ­ـي الــــذي بــــدأت الصهيونية بـــــدعــ­ـــم ووعـــــــ­ــد مــــــن بــــريـــ­ـطــــانــ­ــيــــا تــــؤســـ­ـس ركـــائـــ­زه األولــــى فــي فـلـسـطـني، وكـــان حافز البريطانين­ي في ذلك إيجاد «كيان» يدين لهم بـالـوالء لضمان اسـتـمـرار مصالحهم الجيوسترات­يجية فـي املنطقة، والـتـي ما زالــوا يراعونها. لكن الحركة الصهيونية مــــع مــــوجـــ­ـات الـــهـــج­ـــرة الـــجـــد­يـــدة الـــقـــا­دمـــة من أملانيا وبولونيا، والتي حملت معها يــــهــــ­ودًا أغـــنـــي­ـــاء انــقــلــ­بــت ضــــد بــريــطــ­انــيــا، وبــدأت محاربتها على أرض فلسطني من خالل املنظمات اإلرهابية الصهيونية.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar