هل تسقط أسطورة «معاداة السامية»؟
مــفــهــوم األســــطــــورة هــنــا لـــلـــداللـــة عــلــى أن «معاداة السامية» استعملت ضمن أساطير أخــــــرى مـــؤســـســـة لــلــعــقــيــدة الــصــهــيــونــيــة. ولـفـهـم أهـمـيـة هـــذه األســـطـــورة الـتـي قامت عــلــيــهــا الـــســـرديـــة اإلســـرائـــيـــلـــيـــة ال بــــد مـن الـــعـــودة إلــــى بـــدايـــة ظــهــور هــــذه «الـتـهـمـة» التي تستعمل «سالحا فعاال» إلخراس كل صاحب فكر منتقد للصهيونية وإلسرائيل ولــســيــاســاتــهــا وســـاســـتـــهـــا، وهــــي الـتـهـمـة الجاهزة التي يحاكم بها مناهضو جرائم إسـرائـيـل فــي غــــزة، وتـشـهـر بـاسـتـمـرار في وجه الغضب الشعبي الهائل ضد إسرائيل الــــذي يــجــتــاح جــامــعــات الــعــالــم، بـــل أيـضـا ضد كل األصـــوات التي تجرؤ على انتقاد إسرائيل. لكن الحرب اإلسرائيلية على غزة، وردود الـفـعـل الـعـاملـيـة ضــد الــجــرائــم التي يرتكبها الجيش الصهيوني يوميا ضد الفلسطينيني في طريقها إلى إحداث تأثير جــذري في هـذا املفهوم الــذي اعتاد الكيان الصهيوني أن يقمع به منتقديه. وإذا كـان مـن تأثير فعلي إيجابي للحرب اإلجـــرامـــيـــة عــلــى غــــــزة، فــهــو هــــذا الــتــحــول الــكــبــيــر فـــي رفــــض الـــســـرديـــة اإلســرائــيــلــيــة الـــتـــقـــلـــيـــديـــة الــــتــــي بـــــــدأت أســـاطـــيـــر كــثــيــرة تـــأســـســـت عــلــيــهــا تــتــهــشــم عــلــى صــخــرتــه، ومـنـهـا تـهـمـة «مـــعـــاداة الـسـامـيـة» الــتــي لم تـــعـــد تــخــيــف مــنــتــقــدي إســــرائــــيــــل، خــاصــة فـــي أوســــــاط الـــشـــبـــاب الـــغـــربـــي. ومــــن أجــل فـهـم مـــدى أهـمـيـة ســقــوط هـــذه األســـطـــورة، تنبغي الــعــودة تاريخيا إلــى الــــوراء لفهم كيف تـأسـس عليها وجـــود إسـرائـيـل ومن أوجـــــدهـــــا وأليــــــة مــصــلــحــة وجـــــــدت. كــانــت البداية مع ظهور الفكرة الصهيونية خالل الــــقــــرن الـــتـــاســـع عـــشـــر داخــــــل املــجــتــمــعــات الـيـهـوديـة فــي وســـط أوروبـــــا وشــرقــهــا من بولونيا حتى بيالروسيا مرورا بأوكرانيا وليتوانيا، ألنها كانت املجتمعات األكثر تجانسا توحدها اللغة العبرية وتجمعها الـــطـــقـــوس الـــديـــنـــيـــة الـــيـــهـــوديـــة املــشــتــركــة، وكـانـت هــذه املجتمعات تشكل مـا يسميه املؤرخ اإلسرائيلي شلومو ساند بالشعب العبري، وليس اليهودي، ألن ما كان يجمع بني سكانها اللغة والتقاليد قبل الدين. كـــانـــت تــلــك فـــتـــرة والدة الـــدولـــة الــوطــنــيــة، أو الــدولــة القومية فـي أوروبــــا، وستسعى الـحـركـة الصهيونية إلـــى إنــتــاج أســطــورة «الـــشـــعـــب الــــيــــهــــودي» مــــن خـــــالل لــــي عـنـق بـــعـــض الـــنـــصـــوص الـــتـــوراتـــيـــة لـلـتـأصـيـل لوجود «شعب يهودي» منذ أكثر من أربعة آالف عام، هجره الرومان من أرضه وأصبح يعيش فـي الشتات، مـع العلم أن مؤرخني يــهــودًا يشككون فــي حـــدوث هــذه الهجرة. لكن ما كان يهم الحركة الصهيونية إيجاد حــافــز ديــنــي وتــاريــخــي يــدفــع الــيــهــود إلـى اعتناق فكرها وتبني نظرياتها. ومن أجل ذلـــك ســـوف تـسـتـغـل الــحــركــة الصهيونية تاريخ االضطهاد اليهودي في املجتمعات األوروبــــيــــة مــنــذ الــــقــــرون الـــوســـطـــى، حيث كــان الـيـهـود يعيشون فـي شبه غيتوهات مــنــعــزلــة، لــتــغــذيــة أســـطـــورة خــلــق الـشـعـب الـيـهـودي. ومــع الـتـطـور الـــذي بـــدأت تعرفه أوروبـــــــــا خـــــالل فــــتــــرة الـــــثـــــورة الــصــنــاعــيــة سيهاجر يهود كثيرون نحو املدن بحثا عن الشغل، ويتحررون من سيطرة حاخاماتهم ويـحـتـكـون بــاألفــكــار الـتـنـويـريـة مـــن قبيل الــعــلــمــانــيــة والــديــمــقــراطــيــة والـلـيـبـيـرالـيـة والـقـومـيـة واالشـتـراكـيـة الـتـي بـــدأت تظهر في أوروبـــا، خاصة الغربية، فكانت والدة الــصــهــيــونــيــة نـتـيـجـة تــفــاعــل عـــــدة عــوامــل تـمـثـلـت فـــي تــفــكــك الــغــيــتــوهــات الـيـهـوديـة واعتناق اليهود األفكار التنويرية وظهور مـــا تــســمــى «مـــعـــادة الــســامــيــة» فـــي حلتها الـــجـــديـــدة، ألن مـــعـــاداة الــيــهــود أو كرههم كــــانــــت مـــنـــتـــشـــرة حــــتــــى فـــــي املـــجـــتـــمـــعـــات القديمة، ألسباب دينية مرتبطة بخالفات عــــقــــائــــديــــة بـــــني الــــيــــهــــوديــــة واملـــســـيـــحـــيـــة، واخـــتـــالفـــات اجـتـمـاعـيـة مـرتـبـطـة بطبيعة األنـــشـــطـــة الــتــجــاريــة الـــتـــي كــــان يـمـارسـهـا الـــيـــهـــود، خــصــوصــا فـــي املـــجـــال املـــالـــي، ما سوف يجر عليهم حقد (وكـره) املتعاملني مـعـهـم. كـمـا أن أمــــراء أوروبــــا الـفـيـودالـيـني، ومـــن أجـــل تنفيس غـضـب الـسـكـان ضدهم كـــانـــوا يـلـقـون بـالـالئـمـة فـــي األزمـــــات الـتـي تحل ببلدانهم على اليهود الذين يتحولون إلـــى أهـــــداف لـلـقـتـل والـتـنـكـيـل مـــن الـسـكـان الغاضبني أو الغارقني في الـديـون، والتي يكون مصدرها التجار اليهود. وهكذا ظهر في القرون الوسطى مفهوم «بوغروم» في روسـيـا القيصرية، وهــو يعني بالروسية «الهدم بعنف» أو «عـاث فـسـادا»، ما يمكن أن نــتــرجــمــه بــلــغــة الــعــصــر إلــــى «املــذبــحــة الجماعية» أو «اإلبــــادة الجماعية»، وهي أفعال عنف وتقتيل واغتصاب واضطهاد وســـــرقـــــة واســـــعـــــة مــــوجــــهــــة ضـــــد الـــيـــهـــود انتشرت في كل أوروبا من أوكرانيا شماال حــتــى إســبــانــيــا جــنــوبــا وذهــــب ضحيتها عـشـرات آالف مـن الـيـهـود. وكــان دعــاة هذه املـــوجـــة مـــن الــعــنــف ضـــد الــيــهــود يـعـلـقـون كـل مشكالت شعوبهم على الـيـهـود. فكان الـفـيـودالـيـون واألرســتــقــراطــيــون يـــرون في اليهود خطرا عليهم، ويعتبرون أنهم وراء ثـــــورة شــعــوبــهــم وغــضــبــهــم ضـــدهـــم. وفــي املقابل، كان أوائل «اليساريني» األوروبيني يرون في اليهود الذين يحتكرون التجارة ســنــدا لــلــبــورجــوازيــة الــرأســمــالــيــة حديثة الظهور، وسببا في تأخير قيام الـثـورات، وهكذا ستصبح «معاداة اليهود» مشتركة مـــا بـــني الــفــيــودالــيــني والـــثـــوريـــني، وســـوف تمتد عــدوى «مـعـادة اليهود» إلــى اليهود أنـفـسـهـم، خـصـوصـا الــبــورجــوازيــني منهم الـــذيـــن كـــانـــوا يــخــشــون مـــن هــجــرة الـيـهـود املضطهدين إلى دول غرب أوروبا وأميركا ألنها ستؤدي إلى تنامي مشاعر العنصرية ضد اليهود، وبالتالي تجر عليهم غضب الـــــســـــكـــــان األصـــــلـــــيـــــني، وتــــــمــــــس مـــركـــزهـــم االجتماعي داخل دول أوروبا الغربية التي اندمجوا فيها، وهـي الـــدول التي انتشرت فيها األفكار التنويرية، وسمحت لليهود املــحــظــوظــني الـــذيـــن يــعــيــشــون داخــلــهــا أن يحظوا بنوع من املساواة مع باقي السكان. لكن، حتى هـذه الــدول لم تسلم من معاداة الــــيــــهــــود، وســـــــوف تـــظـــهـــر فـــيـــهـــا «مــــعــــاداة الــســامــيــة» بـشـكـلـهـا الــجــديــد كــمــا نعيشه اليوم في عاملنا الحالي، أي معاداة اليهود بسبب دينهم وعرقهم، وليس فقط بسبب احـــتـــكـــارهـــم الــــتــــجــــارة، أو ألســــبــــاب تــعــود للخالف العقائدي بني اليهود واملسيحيني حول مقتل السيد املسيح. وهـــكـــذا ســيــبــرز فـــي أوروبــــــا الــغــربــيــة هــذا الـــنـــوع الـــجـــديـــد مـــن «مــــعــــاداة الــســامــيــة»، والـــذي تجلى أول مــرة وبشكل واضــح في قــضــيــة دريــــفــــوس الـــتـــي قــســمــت املـجـتـمـع الـفـرنـسـي فــي نـهـايـة الــقــرن الـتـاسـع عشر، ويتعلق األمـر بضابط فرنسي من أصول يـــهـــوديـــة صـــــدر فــــي حـــقـــه حـــكـــم قــــــاس فـي قـــضـــيـــة تــــجــــســــس اتــــضــــح فـــيـــمـــا بــــعــــد أن القضاء واملؤسسة العسكرية تحامال عليه فقط ألصوله اليهودية، لتحميله خسارة
بدًال من أن يحل الغربيون مشكالت عقدهم بأنفسهم وفيما بينهم وعلى أرضهم، رموها على الشعوب العربية
فرنسا حربها ضد أملانيا في نهاية القرن الثامن عشر. وليس من املصادفات أن من بني الصحافيني الذين تابعوا تلك القضية التي هزت الرأي العام في أوروبا صحافيا يهوديا من النمسا اسمه تيودور هرتزل، سيصبح هو مؤسس الحركة الصهيونية الـعـاملـيـة الـتـي كـــان هـدفـهـا األســــاس إنـقـاذ يـهـود أوروبــــا مــن االضــطــهــاد الـــذي كـانـوا يواجهونه في حياتهم اليومية. لكن حركة هــرتــزل هــذه لــم تـغـيـر، فــي بـدايـتـهـا، كثيرًا مـن واقــع اليهود املضطهدين فـي أوروبـــا. وبــــالــــتــــالــــي، لـــــم تــــوقــــف هـــجـــرتـــهـــم غـــربـــا، خــصــوصــا نــحــو أمــيــركــا وكـــنـــدا، أو نحو األفكار االشتراكية التي بدأت في التبلور واعــدة ببناء مجتمعات العدل واملـسـاواة. أمــــا الـــبـــورجـــوازيـــون الــيــهــود فـسـيـجـدون فـــي طــــرح الـصـهـيـونـيـة بـــنـــاء وطــــن قـومـي لليهود فكرة مغرية، كونها سوف تخفف من الـوجـود اليهودي في أوروبـــا الغربية وبـــالـــتـــالـــي، مـــن مــشــاعــر مــــعــــاداة الــيــهــود، رغـــــم أن بــعــضــهــم كـــــان يـــــرى فــيــهــا خــطــرًا عـلـى وجـــودهـــم هــم أنـفـسـهـم فــي بـلـدانـهـم، وعلى وضعهم االجتماعي داخـلـهـا. ومع ذلـــك، لــم يــتــردد كـثـيـرون منهم فــي تمويل هـــجـــرة الـــيـــهـــود الـــفـــقـــراء مـــن دول أوروبـــــا نــحــو فـلـسـطـني الــتــي اســتــقــر رأي الـحـركـة الـــصـــهـــيـــونـــيـــة عـــلـــى اخـــتـــيـــارهـــا «مـــوطـــنـــا قوميا» لليهود، العتبارات جيوسياسية، وأيـضـا بعد بـلـورة قناعة دينية توراتية لدفع اليهود املتدينني نحو الهجرة إليها. وهذا ما أدى إلى انتشار الصهيونية بني اليهود البورجوازيني في أوروبـا الغربية وفـــي أمــيــركــا وكـــنـــدا، لـيـس اقـتـنـاعـا منهم بـــفـــكـــرهـــا، وإنــــمــــا دفــــاعــــا عــــن مــصــالــحــهــم ومــواقــعــهــم االجــتــمــاعــيــة داخـــــل بــلــدانــهــم. ومـع ذلــك، ظل الوضع كما هو عليه حتى الـحـرب العاملية الثانية واكـتـشـاف العالم املــذابــح الـتـي نفذتها الـنـازيـة ضـد اليهود لــتــتــضــاعــف حـــركـــة الـــهـــجـــرة أو بـــاألحـــرى «الهروب» اليهودي من أوروبـا نحو فكرة الـــوطـــن الــقــومــي الــــذي بــــدأت الصهيونية بـــــدعـــــم ووعـــــــــد مــــــن بــــريــــطــــانــــيــــا تــــؤســــس ركـــائـــزه األولــــى فــي فـلـسـطـني، وكـــان حافز البريطانيني في ذلك إيجاد «كيان» يدين لهم بـالـوالء لضمان اسـتـمـرار مصالحهم الجيوستراتيجية فـي املنطقة، والـتـي ما زالــوا يراعونها. لكن الحركة الصهيونية مــــع مــــوجــــات الـــهـــجـــرة الـــجـــديـــدة الـــقـــادمـــة من أملانيا وبولونيا، والتي حملت معها يــــهــــودًا أغـــنـــيـــاء انــقــلــبــت ضــــد بــريــطــانــيــا، وبــدأت محاربتها على أرض فلسطني من خالل املنظمات اإلرهابية الصهيونية.