Al Araby Al Jadeed

«تكوين»: معركة في الفراغ

- سامح راشد

اتسع نطاق الضجة املثارة بشأن مؤسسة تكوين، التي أعلن تدشينها، أخيرًا، كتاب ومفكرون عـرب، فبعد أن تعرضت املؤسسة إلى حملة انتقادات حـادة في وسائل التواصل االجتماعي، تقدم محام بباغ إلى القضاء يطالب بإغاقها وتوقيف القائمني عليها. وبعد أن أحال النائب العام الباغ إلى أجهزة التحري للتدقيق والبحث، انتشرت مزاعم غير صحيحة أن املؤسسة قد أغلقت. إلـى هنا يبدو األمــر مألوفًا ومعتادًا فـي مـصـر، وغيرها مـن املجتمعات التقليدية، إذ يـواجـه املجتمع األفــكــا­ر املخالفة والـطـروحـ­ات الحداثية باملنع واإلقـصـاء والتشويه. لكن الحملة املــضــاد­ة لـ«تكوين» بـدأت بعد ساعات من احتفالية إعـان التأسيس، وبـدأت االتهامات تتوالى ضدها، من دون معرفة كافية بطبيعة املؤسسة وأهدافها، وماهية دورها أو وسائل عملها. بدليل أن كـل قذائف االتهام تصوب نحو املؤسسني وليس نحو املؤسسة. وبـدأت وسائل التواصل االجتماعي تتناقل االنتقادات الحادة، الخاصة بتاريخ األشخاص املؤسسني وتوجهاتهم، وتعتبر أن مجرد وجود إبراهيم عيسى أو فاطمة ناعوت، فضا عن يوسف زيدان، يكفي لفهم توجهات تلك املؤسسة الجديدة وقراءتها. وإن كان التوافق في التوجهات مؤشرًا حقيقيًا على طبيعة الكيان، إال أن االستفاضة في إبراز مساوئهم الذاتية وسلوكياتهم الشخصية، وما لهم من سوابق تؤخذ عليهم في املجال العام، يفقد الهجوم املوضوعية، وبالتالي، الصدقية. كان الفتًا أيضًا، استدعاء الطرفني دور السلطة وموقفها، حيث ادعى كل منهما أنه مدعوم من السلطة. فخرج بعض اإلعاميني املحسوبني على النظام ليعلنوا أن ما يسمونه «الدولة» ال تقبل وال توافق على أي خطوة أو توجه ضد األديـان، وتقاليد ومبادئ املجتمع. بينما سارع مؤسسو «تكوين» إلـى الــرد على االنـتـقـا­دات بــأن التأسيس تـم بموافقات رسمية، وأن الدولة تدعمهم من منطلق اهتمامها بتجديد الفكر الديني في مواجهة التطرف والرجعية. إن استحضار العامل السلطوي في مسألة فكرية، مؤشر بالغ الداللة لجهة انحدار الثقافة العامة، واالنحسار الحضاري الذي بات املجتمع املصري يعاني منه على وقع التجريف الفكري واملعرفي القائم. لكن األخطر أن هذا في ذاته، يكشف عمق األزمة النخبوية في مصر. فإن كان ثمة عذر أو تفهم ملزايدات معتادة ومتوقعة من اإلعاميني املنبطحني، فا عذر وال تفسير مقبولني الرتماء من يزعمون أنهم نخبة تنويرية في أحضان السلطة، واالستقواء بها في مواجهة االنتقادات. من عامات الجفاف الفكري، أيضًا، غياب أي دعوة إلى مواجهة املؤسسة الجديدة بالحوار أو حتى لفهم ما ترمي إليه ومحتوى رسالتها الفكرية، قبل إصـدار حكم عليها. واملـخـيـف، أنــه مـا مـن ردة فعل أو موقف صـدر عـن أي طـرف ال يتوافق مع الـتـوجـهـ­ات العلمانية والـتـجـدي­ـديـة الـتـي يتبناها مـؤسـسـو «تــكــويــ­ن»، بـمـا فــي ذلـك املحسوبون على اإلسام، من متصوفة وسلفيني، وغيرهم. وأيًا ما كانت األسباب، سياسية أو أمنية أو غير ذلك، ال عذر ألي تيار أو توجه فكري، في التواري املطلق،

ٍّ والتعامي بشكل كلي عن تلك املعركة، التي يفترض أنها فكرية وثقافية، وتغذي بــصــورة صـحـيـة الــحــراك الــعــام فــي املـجـتـمـ­ع. وبـالـتـال­ـي، فــا مــفــاجــ­أة فــي أن تخرج االنتقادات من عامة الشعب والبسطاء، الذين يغضبون ألي شبهة مساس بالدين، بغض النظر عن صحتها أو زيفها. هي معركة فقاعية، ال مضمون متماسك فيها،

ُّ بني نخبة متقعرة، طاملا اجترت خطابًا زائفًا بشأن الحرية والحوار مع اآلخر. وتيار شعبوي جــارف، يمثل أغلبية املجتمع املصري غير املثقف بطبيعته. ومـا بينهما أطراف ال مصلحة لها في املعركة، فتنأى عنها، سواء حفنة القوى املتأسلمة، التي تتمسح بالدين وبالتقاليد وبالسام االجتماعي أو السلطة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar