Al Araby Al Jadeed

األشياء على حقيقتها

- بسمة النسور

عندما نطلق على شخص ما صفة «مـوضـوعـي»، فإننا نعني بذلك أنــه ينظر إلى األشياء على حقيقتها، وبتجرد، كما هي عليه في الواقع من دون تحيز شخصي مسبق أو نظرة انفعالية مبنية على اندفاع عاطفي أو موقف ضيق األفـق مستمد من خلفية أيديولوجية. ويعرف علم االجتماع املوضوعية بأنها املوقف الذي تتخذه حني تصدر أحكامك بشأن الواقع منزهة عن الرغبة والهوى. وبالتالي، املوضوعية هي صفة لألحكام وليست صفة للواقع، ألن الواقع مستقل عن الذات، وقد اعتبرتها الفيلسوفة والروائية الروسية األميركية، آين راند ،)1982-1905( فلسفة للحياة على األرض، وتتمثل في الواقعية، إذ يهدف هذا االتجاه الفكري إلى تحديد طبيعة اإلنسان وطبيعة العالم الـذي نعيش فيه، وقـد عبرت عن فكرتها تلك في روايتيها؛ «املنبع» )1943( و«أطلس يستريح» ،)1957( وكذلك في كتبها الفكرية (في األصل مجموعة مقاالت قبل جمعها في كتابني)، مثل «مقدمة إلى نظرية املعرفة املوضوعية» (نشر بدءًا من يوليو/تموز ،)1966 و«فضيلة األنانية: مفهوم جديد لألنانية» .)1964( ويعرف علم النفس املوضوعية بأنها توخي الدقة واألمانة في تسجيل الوقائع واألحـداث، وفي جمعها وعرضها وتفسيرها، والحكم عليها، فيتجرد الشخص مـن ميوله الذاتية وأهــوائــ­ه الشخصية وآرائـــه ومعتقداته وأفــكــار­ه، ويقف موقفًا محايدًا من الناحية االنفعالية. أمــا في الثقافة الشعبية، فــإن مـرادفـات مصطلح «موضوعي» كثيرة، منها العادل، والنزية، والصادق، والشجاع العقالني، والحقاني، الذي يقول الحق (ولو على قطع رقبته)، وفي معزل عن التنظير العلمي الجاف، ومـن وجهة نظر واقعية، فــإن املوضوعية صفة نـــادرة التحقق ألنـهـا تنافي في جوهرها الطبيعة البشرية، املحكومة في سلوكياتها ونظرتها إلى األمور وحكمها على األشياء، باالنجراف العاطفي، واالندفاع الغريزي، وهي من أكثر نقاط ضعف اإلنسان أهمية في العموم، وتميزه عن آلة تؤدي وظائفها على أكمل وجه بشكل ميكانيكي رتيب. وإذا سلمنا أن اإلنسان مزيج من املشاعر واالنفعاال­ت والقدرات العقلية، التي تمنحه القدرة على التمييز، علينا أن نعترف بأن العاطفه لدينا تسبق العقل، على األغلب، وال أرى في ذلك نقيصة، بل تعبير صادق عن طبيعتنا، التي تنطق عن الهوى، في معظم الحاالت واملواقف. ومع ذلك، ال يخلو األمر من نماذج ألشخاص تمتعوا بصفة املوضوعية في تعاطيهم مــع شـــؤون الـحـيـاة، هـــؤالء قــد ينظر إلـيـهـم بعضهم بـاعـتـبـا­رهـم مـتـبـلـدي املشاعر متحجري القلوب، قادرين على تغليب العقل واملنطق دائمًا، ما يجعلهم نماذج تحظى باالحترام لرجاحة عقولهم وقدراتهم واتخاذهم القرارات الحكيمة بعيدًا عن التحيز العاطفي، غير أنها نوعيات غير مفضلة من محيطها، لغياب الجانب العاطفي في ردات أفعالها وسلوكاتها عامة، رغم أن صفة املوضوعية تعتبر ضرورة ال بد من توافرها، سيما في أصحاب بعض الوظائف القيادية املؤثرة مثل السياسيني ورجال القضاء واملحامني، واملفكرين واملحللني السياسيني، واملحكمني الدوليني واملعلمني، وغيرها من الوظائف التي تتطلب توفر أقصى درجات املوضوعية لدى األشخاص القائمني بها، تحقيقًا للعدالة والنزاهة، وانتصارًا للحقيقة في كل الظروف واألحوال. ويستطيع أي منا، إذا توفرت النية، التدرب على هذه املهارة، مهما بلغت درجة عاطفيته وحدة انفعاالته، إذا ما رغب في تطوير ذاته، من خالل التحكم بعاطفته ومشاعره، وإفساح املجال للتفكير املنطقي الكفيل بتحقيق نوع من التوازن النفسي، والتصالح مع الــذات، من خالل االقــرار بنقاط ضعفها واالعـتـرا­ف بأخطائها من دون مكابرة وتعنت، ومحاولة تهذيبها، والـكـف عن التحامل الجائر وإطــالق األحـكـام الجاهزة املسبقة املتجنية، واالرتـقـا­ء بسلوكها داخــل محيطها، ومعرفة ما لها ومـا عليها، واالبتعاد عن التشبث باملواقف املتعصبة، والتعبير عن مواقفها بصدق ّوشجاعٍة، والتعالي على أساليب املداهنة واملجاملة الكاذبة، والنفاق االجتماعي، سعيًا إلى نيل إقرار ورضا اآلخرين، إذ إن كلمة «برافو»، يسمعوننا إياها رشوة النحيازنا إليهم، وسكوتنا عن سابق تصميم عن كلمة الحق، ليست أكثر من تأكيد على افتقارنا أدنى درجات املوضوعية، وفي ذلك ظلم كبير ألنفسنا في الدرجة األولى.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar