من يقف وراء قفزات أسعار الذهب؟
ال يزال قطاع غزة، على صغر مساحته، يلقي بظالله على األسواق العاملية بأسرها. فتلك الصواريخ الصغيرة التي تطلق على الكيان املحتل تـؤثـر بـشـاشـات األســعــار فـي لـنـدن ونـيـويـورك وطوكيو وســيــدنــي، وال يــــزال الــوســطــاء املــالــيــون والــبــنــوك االسـتـثـمـاريـة يتسّمرون أمام شاشات التلفاز ملراقبة األوضـاع في غزة وبناء الخطط املستقبلية وفقًا ملا قد يجري. منذ 7 أكتوبر/ تشرين األول 2023 ارتفع سعر أونصة الذهب بنسبة %30 من 1856 إلى 2430 دوالرًا، وال يزال السعر يحوم حـــول 2350 دوالرًا، وهـــو مــا يشير إلـــى تــحــوالت جـوهـريـة في السوق ال بد من الوقوف عليها. وهنا سأحاول تحليل العوامل األساسية التي أدت إلى تحليق سعر الذهب، والنظر في توقعات البنوك االستثمارية على املدى املنظور. بداية، يصبح الذهب مـالذًا آمنًا تقليديًا يجد رواجـًا متزايدًا في أوقات األزمات والحروب. وعليه، تسهم االضطرابات في الشرق األوسط، على اعتبارها منطقة ساخنة بفضل تحكمها بالعديد من الثروات وطـرق التجارة العاملية، والتوترات بني الــدول، وعدم االستقرار االقتصادي، تسهم كلها في زيادة الطلب على املعدن األصفر، وتبقي حالة التوجس والقلق لدى املستثمرين واألسواق الــعــامــل األبـــــرز لـدفـعـهـم نــحــو الــتــحــوط بــالــذهــب وســيــلــة لتأمني أصولهم املالية. تابع املستثمرون آخر التطورات في غزة، مترقبني رد إسـرائـيـل على مقترح وقــف إطـــالق الـنـار الـــذي قبلته حركة حماس إلنهاء الحرب، ومع رفض االحتالل للمقترح، وبدء العملية العسكرية في رفح، وسيطرة إسرائيل على املعبر قبالة الحدود املصرية، زادت حالة عدم اليقني والغموض في األسواق، فارتفعت أسعار الذهب فوق 2300 دوالر، وتزامنت هذه األخبار مع إشارات متباينة من البنك االحتياطي الفيدرالي إلى أن االقتصاد األميركي يتجه نحو «هبوط ناعم»، وإمكانية البدء بخفض أسعار الفائدة خالل وقت الحق من العام الحالي. وعادة ما تترك أسعار الفائدة املرتفعة آثــارًا سلبية على أسعار الذهب، على اعتبار أن املعدن األصفر ال يـدّر فائدة مقارنة بورقة الــدوالر، حيث تميل أسعار الفائدة املنخفضة بشكل عـام إلـى تعزيز جاذبية الذهب ألنـه ال يقدم عوائد. وكــان رئيس بنك االحتياطي الفيدرالي، جيروم بــأول، في آخر تصريحاته، قد أشــار إلـى أن من غير املـرجـح أن تكون الخطوة املقبلة رفــع مــعــدالت الــفــائــدة. ولـفـت رئـيـس البنك الـفـيـدرالـي في نـــيـــويـــورك، جـــون ولــيــامــز، إلـــى أنـــه فـــي مــرحــلــة مـــا غــيــر مــحــددة سيخفض الفيدرالي األميركي سعر الفائدة، واالقتصاد يتحرك بشكل عـــام نـحـو تــــوازن أفــضــل. وكـتـب بـنـك غــولــدمــان ساكس االستثماري في مذكرة: «ما زلنا نتوقع خفضني ألسعار الفائدة هذا العام، في يوليو/ تموز ونوفمبر/ تشرين الثاني». ويتوقع املتداولون بنسبة %64 خفض سعر الفائدة على الدوالر في شهر سبتمبر/ أيلول الـقـادم، وتشير أفضل التوقعات إلى خفض واحــد ملعدالت الفائدة حتى نهاية عـام .2024 ومـع ذلك، ليس هناك شيء مضمون في األسواق، فإذا حدث ارتفاع حاد في التضخم، أو صدرت بيانات تشير إلى ارتفاع في معدل التضخم خــالل األسـابـيـع املقبلة، فــإن ذلــك سيحبط أي فـكـرة للفيدرالي األميركي حيال قدرته على خفض أسعار الفائدة. الـسـؤال هنا: مـن يقف وراء تحريك سعر الـذهـب لألعلى خالل الـشـهـور املـاضـيـة؟ هــل هــي سلبية الــــدوالر وانـخـفـاض معدالت الفائدة املتوقعة، أم املستثمرون الغربيون والصناديق السيادية والخوارزميات الرياضية، أم البنوك املركزية حول العالم؟ ال أحد يعرف اإلجابة الدقيقة، ولكن أعتقد أن اإلجابة تكمن في كل ما ذكر أعاله. فارتفاع أسعار الذهب يعكس توقعات البنوك املركزية واالستثمارية لعام 2024 وما بعده حول تماسك أسعار الذهب فوق 2000 دوالر، حيث تؤدي التقارير الصادرة عن البنوك االستثمارية دورًا كبيرًا في تشكيل توقعات السوق. هذه التقارير، التي غالبًا ما تحلل األوضاع االقتصادية العاملية وتأثيراتها في الذهب، تشير في معظمها إلى توقع استمرار الصعود في أسعار املعدن األصفر. فقد ارتفع الطلب العاملي على الذهب بنحو %3 فـي الـربـع األول مـن ،2024 مسجال أقــوى طلب فـي أي ربــع أول منذ عام ،2016 بدعم نشاط التعامالت خارج البورصة، ورفعت البنوك املـركـزيـة حــول العالم حيازتها للذهب فـي شهر يناير/ كانون الثاني 2024 بنحو 39 طنًا، وحـل البنك املركزي التركي في املرتبة األولــى بني أكثر املشترين. ووفقًا للبيانات الصادرة نهاية شهر إبريل/ نيسان عن مجلس الذهب العاملي، بلغ إجمالي الطلب العاملي على الذهب مستويات 1238 طنًا في الربع األول من العام الحالي. وأضافت البنوك املركزية حول العالم التي أقبلت على شـراء الذهب في العامني 2022 2023و نحو 290 طنًا إلى احتياطاتها، بزيادة %1 على أساس سنوي، وبزيادة %69 على املتوسط الفصلي لخمس سنوات. وارتفع االستثمار في السبائك والعمالت الذهبية، بنحو %3 إلى 312 طنًا في الربع األول بدعم من ارتـفـاع الطلب على سبائك الذهب الصغيرة في آسيا. وفي الصني، قفز الطلب على السبائك والعمالت الذهبية %68 إلى 110 أطنان، وهو األقوى في أكثر من سبعة أعوام. وتـوقـع Bank of America أن تصل أسـعـار الـذهـب إلـى 2400 دوالر لألونصة بنهاية ،2024 بينما توقع بنك UBS أن تصل األسعار إلى 2200 دوالر، أما بنك ،Citi bank فتوقع أن يصل إلى 3000 دوالر، وتوقع goldman sachs أن تصل إلى نحو 2700 دوالر في نهاية العام الحالي. إذن، أمــران يحددان اتجاه سعر الذهب خـالل الشهور القادمة؛ األول مرتبط بالسيناريوهات االقتصادية املرتبطة بوضع الركود والتضخم، مثل سيناريو الهبوط الناعم الذي يشير إلى استقرار األسواق وعدم وجود صدمات اقتصادية كبيرة وسيطرة البنوك املركزية على معدالت التضخم. وفق هذا السيناريو، من املتوقع أن تظل أسعار الذهب مستقرة نسبيًا. والثاني األحداث في غزة واالضــطــرابــات الجيوسياسية فـي املنطقة. قـد تظن أن أسعار الذهب الحالية مرتفعة، ولكنك ستفاجأ عندما تعلم أن القيمة املـعـدلـة للذهب حسب التضخم، تـعـادل أكـثـر مـن 3000 دوالر اليوم، وهـذا السعر لم تبلغه األســواق بعد مقارنة بأعلى سعر تاريخي سجل فـي عــام ،1980 الــذي كــان 850 دوالرًا مـع أخذ التضخم باالعتبار. هذا يعني أن الذهب، رغم ارتفاعاته الحالية، ال يـزال لديه مجال لتحقيق قمم سعرية جديدة. فكن مستعدًا لهذه السيناريوهات.