Al Araby Al Jadeed

الموت مجازًا إلى حياة أرحب

في جديده، يسرد الجزائري كريم بن صالح حكاية شاٍب يواجه تحديات عائلية واجتماعية ووجودية، بلغٍة سينمائية استحّق بفضلها جائزة أفضل سيناريو

- قيس قاسم

يــــقــــ­دم املـــخـــ­رج الـــجـــز­ائـــري كــريــم بــن صــالــح، مــع زمـيـلـه فــي كتابة السيناريو جمال بلماحي، على مغامرة سينمائية، بخوضهما موضوعًا شائكًا، لـه صلة بــاألديــ­ان وتـعـدد الثقافات واخـتـافـه­ـا فـي فـرنـسـا، مـن منظور مـركـب، الـــفـــر­د مــــحــــ­وره. مـــنـــه، يــمــكــن رؤيـــــة املـشـهـد االجتماعي األوســع، املتشكل من تشابكات وتعقيدات، يكون الفرد، في النهاية، الفاعل األنشط فيه. والنص السينمائي، إذا أحسن التعبير عن تكويناته الوجودية وتعقيداته النفسية، يثير تــأمــا وتفكيرًا فــي الوضع الـــبـــش­ـــري املـــلـــ­تـــبـــس، الـــــــذ­ي تـــخـــيـ­ــاه لـبـطـل فيلمهما «مـا فـوق الضريح» ،2023( إنتاج جزائري فرنسي). على هذا أن يتعايش معه ككائن ـ فرد، يبحث عن معناه، في وسط لن ينفك عـن االلتصاق بــه، رغــم فـــرادة تكوينه الكوزموبول­يتاني، املتأتي من عيش طفولة مــــوزعــ­ــة فــــي بــــلــــ­دان كـــثـــيـ­ــرة، بــســبــب الـعـمـل الديبلوماس­ي لـوالـده، وتحدثه لغات عـدة، تشعره باالنتماء إلى ال مكان، بل إلى نفسه فقط، ال إلى أحد غيره، أو إلى بلد معي. املشهد االستهالي ـ املراد به عرض مامح عـــامـــة لــشــخــص­ــيــة الـــبـــط­ـــل الــــشـــ­ـاب ســفــيــا­ن (املـــوهــ­ـوب حـمـزة مــزيــانـ­ـي)، لحظة ظـهـوره األول بـــــي شــــبــــ­اب فـــرنـــس­ـــيـــي فـــــي مــديــنــ­ة «لــيــون» ـ يلبي الـغـرض مـنـه، ويـظـهـره كما هو: شاب عابث بالحياة، وميال إلى اللهو والـتـبـاه­ـي بثقافته الـكـونـيـ­ة، مـقـدمـًا نفسه أميركيًا فرنسيًا إيطاليًا فنزويليًا سنغاليًا جزائريًا. ال يشير إلى البلد األخير كموطن أصــلــي لـــه، انـــحـــد­ر مــنــه. هـــذا يـثـيـر حفيظة غـيـره مــن الـشـبـاب الـجـزائـر­يـي، الفخورين بــوطــنــ­يــتــهــم وقــومــيـ­ـتــهــم الــعــربـ­ـيــة، ويــتــرك بينهم وبينه فراغًا، يتسع في املشهد الذي يـلـيـه مـــبـــاش­ـــرة. لـفـشـلـه فـــي االســـتــ­ـمـــرار في دراسـتـه، يـهـدد بالطرد من فرنسا. لتجنب ذلك، عليه البحث سريعًا عن عمل، يبرر به وجـوده فيها. املـدة املمنوحة له قصيرة، ال تتجاوز شهرًا واحدًا. مرشدته في الجامعة تـــنـــصـ­ــحـــه بـــالـــب­ـــحـــث عـــــن عــــمــــ­ل خــــــــا­ص، ال يتنافس عليه العمال الفرنسيون. يتوسط له والده مع قريب، لديه مكتب لدفن املوتى املسلمي. ال خيار أمـامـه ســوى القبول به، أما منه في الحصول على عقد عمل رسمي يمدد به إقامته. يــــورط الــنــص بـطـلـه فــي عـمـل غــريــب، يـقـربـه مـــن عــالــم األمــــــ­وات، هـــو الــــذي يـعـيـش حـيـاة شبابية صاخبة، تبعده عن التفكير باملوت، وحتميته. منذ لحظة تعرفه على «الحاج» (الــجــزائ­ــري عبد الــقــادر أفــــاك)، املــســؤو­ل عن تــرتــيــ­ب مـــراســـ­م غــســل املـــوتــ­ـى، والـتـحـضـ­يـر لدفنهم بحسب التقاليد اإلسـامـيـ­ة، يظهر التناقض الجلي بي ثقافتي وشخصيتي:

موضوع شائك يتصل باألديان وتعدد الثقافات في فرنسا

األولـــى حياتية، تنفر مـن املـــوت، وال تطيق فكرة حتميته، والثانية تتعامل معه كحقيقة وجودية، ال بد من القبول بها، وبما تفرضه من احترام كبير للميت وجسده. لن يتهاون «الـــــحــ­ـــاج» مــــع أي خـــــرق ألعـــــــ­ـراف وتــقــالـ­ـيــد عمل، لها صلة بالديانة التي ينتمي إليها، وبــطــقــ­وس تـعـامـلـه­ـا مـــع مـــن يـــغـــاد­ر الـدنـيـا إلـــى اآلخــــرة. املــكــان املـقـتـرح للجمع بينهما يفرض حضورًا دائمًا للموت، يترك وجا في نفس من يتابعه على الشاشة، التي تفيض بـــمـــشـ­ــاهـــد تـــعـــرض تـــفـــاص­ـــيـــل الـــتـــع­ـــامـــل مـع الجثث، املعتنى باإلعداد لرحيلها إلى عالم اآلخرة. بدال من االستجابة إلى رغبات خفية عند املشاهد، الختصارها، يتعمد كريم بن صـالـح، ويــكــرس مـهـاراتـه اإلخـراجـي­ـة كلها، إظـــهـــا­ر الــعــاقـ­ـة الــخــاصـ­ـة بـــي جـسـد املسلم املــســجـ­ـى، واملــعــت­ــنــي بغسله وتـسـلـيـم­ـه إلـى خالقه طاهرًا نظيفًا. إلى هذا الجو، املشبع بطهرانية روحـانـيـة، يدخل سفيان صدفة. ما يبدو في البدء مثيرًا للنفور في ثقافته الكونية، يغدو بسرعة دافـعـًا إلــى اإلعجاب بــانــفــ­تــاح، فـيـهـا (الــثــقــ­افــة الــكــونـ­ـيــة) تـجـسـر الخافات، وتجمع التناقضات من املواقف. تـــأثـــر­ه بــأســلــ­وب عــمــل رجـــل غــريــب األطــــوا­ر

ّّ وغـــامـــ­ض، كـلـمـا تــقــرب مـنـه تـعـمـد االبـتـعـا­د عنه، كأنه ال يريد أي صلة له بعالم األحياء، يضحى (الــتــأثـ­ـر) مــدخــا إلـــى االقـــتــ­ـراب من جوانيات «الحاج»، واكتشاف جوانب رائعة فــيــه، يتستر عليها سـلـوكـه الــخــارج­ــي، وال يشي بها. من دون إقحام فظ، يترك للسينما أخذ دورها البارع في نسج صات إنسانية جديدة، بي أطراف متباعدة في موروثاتها الــديــنـ­ـيــة. لـــكـــن، هـــنـــاك مــشــتــر­كــات إنـسـانـيـ­ة أخـــــــر­ى، يـــمـــكـ­ــن بـــمـــا لـــديـــه­ـــا (الـــســـي­ـــنـــمــ­ـا) مـن سحر أن تقدمها بساسة تثير إعجابًا بها وبقدرتها على خلق عوالم متخيلة. لم يألف املشاهد العربي خاصة حضورها عـــلـــى الــــشـــ­ـاشــــة، بــــهــــ­ذا الـــــقــ­ـــدر مـــــن الـــتـــف­ـــرد والـــتـــ­دقـــيـــق. قــــــدرة الــســيــ­نــمــا عـــلـــى تـحـويـل مـــا كــــان فـــي الـــبـــد­ء مـــنـــفـ­ــرًا، لـــشـــدة غــرابــتـ­ـه، ومستهجنًا، إلــى فعل ســوي، يفتح مسارًا درامــيــًا الفـتـًا فــي تـصـاعـده وانـفـتـاح­ـه على آفــــاق جـــديـــد­ة، تـقـبـل الـجـمـع بـــي الــديــان­ــات

والـثـقـاف­ـات. انفتاح سفيان، بحكم تكوينه املــركــب مـن ثـقـافـات عــاش وسطها، ساعده عــلــى حــــل عــقــد كــثــيــر­ة واجــهــهـ­ـا فـــي عـمـلـه. بـــفـــضـ­ــلـــهـــ­ا، يـــجـــمـ­ــع بــــي احــــتـــ­ـرامــــه تــقــالــ­يــد إسامية، وأخــرى تتفاعل وتتشابك معها في املكان نفسه. من بي مراسم دفن املوتى، تظهر مساحات وممرات للتفاهم والقبول بـــاآلخــ­ـر وتـــقـــا­لـــيـــده. هــــذا يــعــجــل بـحـصـولـه على عمل ثابت، يتيح له مراجعة عاقاته بعائلته ووالده الدبلوماسي املتقاعد، الذي ظــل زمنًا طـويـا بعيدًا عنه، ال يفهمه، وال يتقبل فتور تعامله مع موت والدته. يدرك أن عـمـلـه الــجــديـ­ـد يـعـيـنـه عـلـى فـهـم نفسه، وبــــــدا­ل مـــن جـعـلـهـا مـــركـــزًا وحـــيـــدًا لـلـعـالـم، يــقــبــل بـــدخـــو­ل آخـــريـــ­ن عــلــيــه­ــا، يـتـفـاعـل­ـون مـــعـــهـ­ــا، ويـــشـــا­ركـــونـــ­هـــا األفــــكـ­ـــار واملــــوا­قــــف. نـص «مـا فـوق الضريح» مـدهـش، يستحق فوزه بحائزة أفضل سيناريو، في مسابقة األفام الروائية الطويلة في الدورة الثالثة 30( نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 9 ديسمبر/ كــــانـــ­ـون األول )2023 لــــ«مـــهـــرج­ـــان الــبـحــر األحمر». فيه تبرز موهبة تمثيلية واعـدة، يــرفــع بـهـا صـاحـبـهـا حــمــزة مــزيــانـ­ـي نـصـًا مركبًا، كالشخصية التي يؤديها، والتي ال

َِ يمكن تجسيدها سينمائيًا إال ملــن توفرت عنده موهبة التمثيل العجيبة.

 ?? (الملف الصحافي) ?? «ما فوق الضريح»: عالقة مرتبكة ت ِعين على فهم الحياة
(الملف الصحافي) «ما فوق الضريح»: عالقة مرتبكة ت ِعين على فهم الحياة

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar