Al Araby Al Jadeed

في ذكرى ثورة 1919

ثّمة رؤية ثنائية تســيطر على عملية كتابة تاريخ ثورة ،1919 قوامها الفصل بين جماهير الريف وجماهير المدينة، فلكل طرٍف منهم أسبابه الخاصة كي يثور. هنا مطالعة حول هذه المسألة وإشكالياته­ا.

- محمود صالح النص الكامل على الموقع األلكتروني

«هــــو الـــخـــر­اب بـعـيـنـه، ســــل ســـواد الـــــنــ­ـــاس يــــقــــ­ولــــون لـــــك بـــاإلجــ­ـمـــاع أن أيــامــهـ­ـم هـــذه قـطـعـة مـــن ســنــى يــــوســـ­ـف» ... عــــزيـــ­ـز خـــانـــك­ـــي )1956-1873( املـــحـــ­امـــي املــــصــ­ــري، ذو األصــــــ­ـول الــشــامـ­ـيــة، وهو يصف األحــوال االجتماعية للمصريني فـــي أثـــنـــا­ء ّالـــحـــر­ب الــعــامل­ــيــة األولـــــ­ـى -1914( .)1918 تحل هـذه األيــام ذكـرى اشتعال ثورة عـــام 1919 فــي مــصــر. ويــكــاد يـتـفـق عــديــدون مــــن مـــؤرخـــ­يـــهـــا عـــلـــى أن عـــامـــل­ـــني أســاســيـ­ـني منحاها االنــتــش­ــار الـــواســ­ـع، فــي طـــول الـبـاد وعرضها، حيث املواجهة الشاملة العنيفة، وذلك بجانب األزمة السياسية املتجسدة في مواجهة الحركة الوطنية املصرية لاحتال اإلنجليزي، ويتجسدان في: أوال، أزمـــة الــغــذاء فــي أثــنــاء الــحــرب العاملية األولـــى؛ ومــا ارتـبـط بها مـن بطالة ومجاعة، خصوصًا فــي األطــــرا­ف والــريــف، األمـــر الــذي أســـهـــم فــــي ارتــــفــ­ــاع مـــعـــدا­لت الـــوفـــ­يـــات؛ فقد توفي ٪2 من املصريني بسبب الجوع وسوء التغذية واملــــرض. ثـانـيـا، حــالــة مــن السخط الـــواســ­ـع؛ فــالــفــ­احــون فـــي األطــــــ­راف فـــي قــرى الـدلـتـا والصعيد أجــبــروا على تحمل أعباء الـحـرب العاملية األولــــى، فقد اقتيد أبناؤهم وأقـــاربـ­ــهـــم إلـــى مـعـسـكـرا­ت الـعـمـل اإلجـــبــ­ـاري فــي مــيــاديـ­ـن الــقــتــ­ال فــي الـــحـــر­ب، عــــاوة على مــعــانــ­اتــهــم مــــن األزمـــــ­ــة الـــغـــذ­ائـــيـــة الــطــاحـ­ـنــة خــال فترتها، وتـصـاعـدت مخاوفهم بأنهم «سيكونوا أشـد جوعًا في العام »1919 على حـــد قـــول املـــــؤر­خ األمــيــر­كــي إلــيــس غـولـدبـرغ (توفي في ؛)2019 حيث كانت ثــورة الجياع فى الريف تحتاج تلك الفرصة التي تحركت فـيـهـا املــديــن­ــة أو أفــنــديـ­ـة الــحــركـ­ـة الــوطــنـ­ـيــة، وعندها «أدرك الـفـاحـون أن السيطرة على الـسـلـع والــحــاص­ــات الــتــي ينتجونها كانت أكـثـر أهـمـيـة مــن أي دخـــل نــقــدي يتحصلون عليه من بيعها، ولكن تلك السيطرة الفاحية كانت تعني صراعًا مع ماك األراضي والدولة في وقت واحد»، فاملحرك األساسي، هنا، هو الجوع أو الخوف من التعّرض له مّرة أخرى، فكان ال بد لهم من إسماع أصواتهم كل القوى السياسية املسيطرة على املجتمع: السلطة العسكرية (االحـــتــ­ـال)، والحكومة املصرية، وكبار املاك.

رؤية تفصل بين جماهير الريف وجماهير المدينة

ووفقًا لذلك، يمكن القول إن ثمة رؤية ثنائية تسيطر على عملية كتابة تاريخ ثورة ،1919 قوامها الفصل بني جماهير الريف وجماهير املــديــن­ــة، فلكل طـــرٍفّ منهم أسـبـابـه الخاصة كــي يــثــور. ويــبــدو أن ذلـــك الـتـقـسـي­ـم: الــحــراك الـــســـي­ـــاســـي الـــوطـــ­نـــي فــــي املـــديــ­ـنـــة (األفـــنــ­ـديـــة الثوار)، والحراك املطلبي في القرية (الفاحون الجوعى) كان حاضرًا في الخطاب السياسي االســتــع­ــمــاري أيـــضـــًا، فــالــلــ­ورد مـلـنـر، عندما حضر إلــى مصر آواخـــر عــام ،1919 كتب في تقريره ما يشير بوضوح إلى هذا الخطاب؛ حيث يقول «في املدن والبنادر يسهل تهييج الــغــوغـ­ـاء بتلقينهم ألــفــاظـ­ـًا مستحبة رنـانـة تتحذ شعارًا سياسيًا فيصيحون بها وهم ال يفهمون معناها. أما الفاحون فجمهورهم ال يبالي بالسياسة بطبيعته». وكان املراقب العام البريطاني في مصر، اللورد كرومر، قد كــرس تلك الـرؤيـة، عندما أفصح عن تحليله شخصية الفاح املصري الذي كان في نظره «عاطفيًا وجاها وساذجًا». وأضاف كرومر، فـــي رؤيـــتـــ­ه إلــــى الـــحـــا­لـــة الــســيــ­اســيــة لـلـفـاح املــصــري: الـفـاحـون «هــم مـجـرد أصـفـار على الصعيد السياسي. الفاحون فاترو الشعور، شديدو الجهل، وعـاجـزون تمامًا عن امتاك زمام املبادأة، ولذلك هم يعجزون عن التعبير عن آرائهم تعبيرًا سياسيًا مسموعًا». وكان مسؤولو اإلدارة االستعماري­ة يثقون جيدًا فـــي الـــــدرس االســتــش­ــراقــي الــــذي تـعـلـمـوه في صــفــوفــ­هــم، حــيــث كـــانـــت نــظــريــ­ة االســـتــ­ـبـــداد الــشــرقـ­ـي حــاضــرة فــي رؤيــتــهـ­ـم إلـــى املجتمع املصري، وكانت رؤيتهم تلك نموذجًا للقراء ة الـرومـانـ­سـيـة االسـتـعـم­ـاريـة لـتـاريـخ املجتمع املصري، فاللورد كرومر، مثا، كـان يتصور الدور أو االحتال اإلنجليزي باعتباره إنقاذًا ملصر من تاريخها االستبدادي، وفساد رجال الحكومة واإلدارة وتعطل الـحـريـات. أو كما قال «املصريون على مدار ستني قرنًا يعانون مــن ســوء الحكم والـقـمـع على أيـــدي مختلف الحكام بدء ا من الفراعنة إلى الباشوات». وهنا يأتي دور «املصلح اإلنجليزي» لتأهيل املـــصـــ­ريـــني وتــعــلــ­يــمــهــم حـــكـــام­ـــًا ومــحــكــ­ومــني. ومــــن ثــــم، إنـــكـــا­ر دور الـــفـــا­ح أو األطــــــ­راف في ثــورة 91، واعتبارها عما مطلبيًا ال أفــق أو غــايــة سـيـاسـيـة مــن ورائـــهــ­ـا هــو مــن آثــــار ذلـك الخطاب االستعماري. وهو أمر تنكره حقائق االجتماع والتاريخ؛ فقد أثبتت أحداث الثورة أن ثمة تبلورًا أوضح وأعمق للهوية املصرية الجامعة، حيث تمكن مواطنو مصر من تمتني املعنى املشترك الجامع لهويتهم بشكل مميز وفريد، والعاقة بالسلطة واآلخر من مواطني الـبـلـد، ومـشـاركـة الــنــاس الـعـاديـن­ي فــي الـشـأن العام، واعتبار أن املصالح واملطالب العامة ال تخص املصريني من رجال السياسة والحكم، الـصـحـافـ­ة أو املـقـيـمـ­ني فــي الــقــاهـ­ـرة وحــدهــم، بـــل املـــصـــ­ريـــني فـــي كــــل مــديــنــ­ة وقـــريـــ­ة ونــجــع. ومــن ثــم، كـانـت الـنـظـرة املتعجلة إلــى الـحـراك الثوري 1919 تقوم على أنه حدث سياسي في املدينة خلف قادة حزب الوفد؛ وحدث مطلبي فــي الـقـريـة طلبًا لـلـطـعـام، وخــوفــًا مــن الـجـوع ونقص الغذاء؛ فإن وثائق وكتابات عديدة قد ظهرت من أجل تصحيح تلك الرؤية، والعمل مـن أجــل إبـــراز الــصــراع االجتماعي والطبقي الــذي عبرت عنه ثــورة ،1919 باعتبار أن ذلك الصراع ممارسة سياسية، أو كما قـال فكري أبـــاظـــ­ة فـــي روايـــتــ­ـه «الـــضــاح­ـــك الـــبـــا­كـــي» إنـهـا «الثورة ضد اإلنجليز، والثورة ضد الثروة». وقـد كـان للتباين في األداء واملــد الـثـوري بني أقاليم مصر ومدنها دلـيـا على خصوصية الظروف البنائية واالجتماعي­ة في كل إقليم، واتــســاع حجم املظالم واألزمــــ­ات االجتماعية واالقــتــ­صــاديــة فـــي كـــل إقــلــيــ­م شــــارك بفاعلية فـــي الـــثـــو­رة، وإن كــانــت جـمـيـعـهـ­ا قـــد نجحت فـي أن تـبـرز باعتبارها ثـــورة واحـــدة تضافر فـيـهـا املــصــري­ــون؛ لـيـس فـقـط إلنــتــاج مجتمع جـــديـــد يــحــفــظ كـــرامـــ­تـــهـــم، بـــل أيـــضـــًا مجتمع موحد لهويتهم الوطنية. ... «األجانب شوهوا تاريخنا وكتبوه وفق أهوائهم» ... تلك كلمات مـحـمـد صــبــري الــســورب­ــونــي أحـــد أهـــم كــتــاب التاريخ القومي املصري؛ حيث كـان، بكلماته تــلــك يـنـتـقـد الــكــتــ­ابــة الــكــولـ­ـونــيــال­ــيــة لـلـتـاريـ­خ املصري الحديث؛ والتي اعتمدت على فرضية «ركود الشرق»، ولكن إلى حني قدوم املستعمر بـــــــــ­أدوات الــــحـــ­ـداثــــة، فـــاملـــ­ركـــزيـــ­ة واالســــت­ــــبــــد­اد الــشــرقـ­ـي، وهــمــا مــن املـفـاهـي­ـم األســاســ­يــة، في هــــذا الـــنـــم­ـــوذج، قـــد عــمــا عــلــى إيـــجـــا­د تــاريــخ نـمـطـي ودائـــــر­ي ملـصـر الــحــديـ­ـثــة، حـيـث تبدو كأنها مجتمع ذو تاريخ واحــد متكرر، حتى سجل الغزاة اكتشافهم له؛ في حني أن الكتابة الوطنية للتاريخ الـقـومـي، والـتـي ظـهـرت في مرحلة الحقة تؤكد على قدم الدولة واملجتمع وأصالتهما. وتنزعج، فـي أحـيـان كثيرة، من حضور سـرديـة التنوع داخــل أطـــراف الوطن، وتـــرى أن مصر وحـــدة متجانسة ذات تاريخ مــشــتــر­ك مــنــذ عــهــد املــلــك مـيـنـا نـــارمـــ­ر مــوحــد الـقـطـريـ­ن. وفـــي كــل الـــحـــا­الت، يـجـري تهميش األطــــــ­ـراف وتـــعـــم­ـــد الــتــعــ­امــل مــعــهــا أنـــهـــا غير مرئية )invisibili­ty( كما يقول بذلك الباحث األمـــيــ­ـركـــي، بـيـتـر جـــــران، أو اعــتــبــ­ارهــا تابعة للمركز وليس لديها تاريخ أو سردية مختلفة عـن املـركـز أو العاصمة (الــقــاهـ­ـرة)، حيث نزع هوية األطــراف وخصوصيتها، بـل، وأحيانًا، اعتبار أن خصوصيتها تمثل تهديدًا للتاريخ الواحد؛ أو السردية القومية الجامعة. ويميز بيتر جـــران بــني عـــدة نــمــاذج أكـاديـمـي­ـة كانت هـي املسؤولة عـن اختفاء التأريخ ألبــرز مدن األطـراف في مصر، أسيوط عاصمة الصعيد، ومركز الثقل اإلداري واالقتصادي والسياسي بــــهــــ­ا. ويـــــؤكـ­ــــد أن تـــجـــاه­ـــل الــــتـــ­ـاريــــخ املــحــلـ­ـي لألطراف، ليس فقط بسبب الدور االستعماري أو مــــؤرخــ­ــي االســـتــ­ـعـــمـــا­ر؛ فـــقـــد لـــعـــب بـاحـثـو األنــجــل­ــو – أمــيــركـ­ـان الــــدور األبــــرز فــي عملية إخفاء تاريخ األطـــراف. ويفسر جــران قيامهم بـذلـك الـــدور بـالـرجـوع إلــى الخلفية الثقافية والــحــضـ­ـاريــة لـــهـــؤا­لء الــبــاحـ­ـثــني، فـالـحـضـا­رة الـــغـــر­بـــيـــة هـــــي نــــتــــ­اج عـــمـــلـ­ــيـــة الـــتـــخ­ـــلـــص مـن األضعف، حيث يقارب جران بني سفر الخروج ‪)Book of Exodus(‬ ومــا جــرى فـي أثـنـاء بناء الحضارة الغربية؛ والتي صارت ثقافتها تقوم على مركزية الـذكـر األبـيـض، حيث تتخلص جـــمـــاع­ـــة الــــذكــ­ــر األبــــيـ­ـــض مــــن بـــعـــض الـــنـــا­س، وإن كانوا طيبني، إال أنهم كانوا في الجانب الخاطئ، حتى أن عملية إبادتهم ليست ذنبًا تــام عليه جماعة الذكر األبيض، فهم كانوا، في النهاية، ينفذون إرادة الـرب. ويذكر جران أن جـمـاعـة الـبـاحـثـ­ني الـغـربـيـ­ني يـنـظـرون إلـى مصر من ذلك املنظار االنتقائي واالستبعاد­ي، والــذي يتجلى في لحظة تجاهل املجتمعات املحلية املصرية. ويبدو في تلك اللحظة تأثر جـــران بنظرية مــا بـعـد االسـتـعـم­ـار فــي وصـم املـنـتـج األكــاديـ­ـمــي األنــجــل­ــو- أمــيــركـ­ـي، والـتـي تمثلت عند سبيفاك في الطرق االستعماري­ة، والــــــذ­ي اعــتــبــ­رتــه بــوصــفــ­ه «مـــكـــون­ـــًا للفلسفة الغربية وتصورها لنظام العالم».

مؤرخون مصريون

وكان مؤرخون مصريون عديدون قد نجحوا، فـي اآلونـــة األخـيـرة، فـي إعـــادة كتابة التاريخ االجـتـمـا­عـي لــألطــرا­ف؛ خصوصًا فــي صعيد مصر، وقـامـت رؤيتهم على تـحـدي منهجية االستبداد الشرقي، مثال ذلك زينب أبواملجد التي قدمت قــراءة لتاريخ الصعيد في ضوء مفهوم االستعمار الـداخـلـي أو االستيطاني ‪)Settler Colonialis­m(‬ ، حـيـث أوضــحــت أن التأريخ اإلمبريالي ملصر قد ركـز على كتابة تــاريــخ الــشــمــ­ال (الــقــاهـ­ـرة والــدلــت­ــا) دونــــًا عن الـجـنـوب، الـــذي جــرى تجاهله، وغـــاب صوت الجنوب بشكل تــام. وترفض زينب أبواملجد نظرية االستبداد الشرقي، وتعتقد في أهمية نـظـريـة مــا بـعـد االسـتـعـم­ـار فــي فـهـم الـتـاريـخ املــصــري الــحــديـ­ـث، وخـصـوصـًا دور األطـــراف في جنوب مصر فيه، ولكنها توسع من تلك النظرية، ال لتشمل مرحلة االستعمار والغزو األجـــنــ­ـبـــي، فــحــســب، ولــكــن أيــضــًا االسـتـعـم­ـار الداخلي؛ حيث الصفوة السياسية القاهرية بنزعتها وخطابها الـقـومـي املــوحــد واملنكر تـــاريـــ­خ األطــــــ­راف ومــكــانـ­ـتــهــا وخــصــوصـ­ـيــتــه، األمـــر الـــذي كـــرس األطــــرا­ف باعتبارها تابعًا ،)subaltern( وكـــان أنـجـح مــحــاوال­ت إخضاع األطــــــ­راف وأبــــرزه­ــــا تــلــك الـــتـــي جــــرت عــلــى يد مــحــمــد عــلــي بـــاشـــا، حــيــث كــــان الـصـعـيـد هو املستعمرة األولى ‪First Colony‬ بحسب رؤية زيــنــب أبــواملــ­جــد، والــتــي «تـــم إدمــاجــه­ــا قسرًا فـي نظام الشمال وهيمنته؛ فـي الـوقـت الـذي تــم فيها تـطـريـف أو تهميش الـصـعـيـد الــذي تمت السيطرة عليه»، أي أنها عملية مزدوجة تــشــمــل اإلدمـــــ­ـــاج والـــتـــ­هـــمـــيـ­ــش مــــعــــًا. يــرفــض جران ذلك التفسير لتغييب حضور األطراف، الصعيد خصوصًا، في عملية كتابة التاريخ املــــصــ­ــري؛ حــيــث يــعــتــق­ــد أن نـــمـــوذ­ج الــطــريـ­ـق اإليــطــا­لــي ألنــطــون­ــيــو غــرامــشـ­ـي عـــن الـجـنـوب اإليطالي هو األنسب للحالة املصرية؛ حيث أن نخب صعيد مصر قد أدمجت في بناء القوة الخاص بنخبة القاهرة، بل إنها تكاملت مع البنى البيروقراط­ية والعسكرية والسياسية والثقافية الـخـاصـة بنخب الـشـمـال، فالقوى الـجـنـوبـ­يـة املــنــخـ­ـرطــة طـبـقـيـة ومــتــمــ­ايــزة عن املجتمع املحلي باألساس، من خال عاقتها بجهاز الـدولـة، وليس بنمط إنتاجي محدد، حـــيـــث تــــعــــ­مــــدت عـــمـــلـ­ــيـــة الـــتـــح­ـــويـــل الــطــبــ­قــي اصـــطـــن­ـــاع طــبــقــة وســـطـــى تـــتـــقـ­ــدمـــهــ­ـا صــفــوة إدارية وسياسية (العمد واملشايخ واألعيان)، وهـــــو الــتــفــ­ســيــر الــــــذي يــخــتــل­ــف عــــن نـــمـــوذ­ج االســتــع­ــمــار االســتــي­ــطــانــي؛ فـــــــإد­ارة الــجــنــ­وب لـيـسـت سـيـطـرة اسـتـيـطـا­نـيـة، بــل هــي هيمنة ذات أبـــعـــا­د أيــديــول­ــوجــيــة، ومــــاديـ­ـــة؛ حـتـى أن مثقفي الجنوب الذين يختارون على أنهم من رموز الثقافة الوطنية كان قد جرى اختيارهم بناء على انتمائهم باألساس إلى تلك املناطق املــســتـ­ـبــعــدة، والـــذيــ­ـن كــانــت كـتـابـاتـ­هـم تتجه إلــى تكريس ثقافة الــوطــن واملـصـيـر الــواحــد، وكـــان «غـرامـشـي ال يقصد أن هـــؤالء املثقفني كانوا عظماء بالفعل بقدر ما كان ذلك طبيعة واتـــجـــ­اه وخـــطـــة الـتـنـظـي­ـم الـثـقـافـ­ي الــســائـ­ـد». وضـــــــر­ب جـــــــرا­ن مــــثــــ­اال بـــنـــمـ­ــوذج طــــه حـسـني بــاعــتــ­بــاره خـيـر شــاهــد عـلـى صـــدق الـنـمـوذج اإليطالي في فهم التكامل السياسي والثقافي لألطراف الجنوبية مع الشمال. ووفقًا لذلك، عملية اإلدماج السياسي والثقافي للجنوب ال تمارسها الدولة املركزية وحدها، بل تمارس عبر قــوى اجتماعية وثقافية محلية أيضًا، حيث نفقد في تلك اللحظة الصورة الحقيقية للجنوب، وننظر إليه باعتباره جزءًا من ثقافة الشمال ونظامه.

أثبتت أحداث الثورة أن ثمة تبلورًا أوضح وأعمق للهوية المصرية الجامعة

تؤّكد الكتابة الوطنية للتاريخ القومي على قدم الدولة والمجتمع وأصالتهما

التأريخ اإلمبريالي لمصر قد رّكز على كتابة تاريخ الشمال (القاهرة والدلتا) دونًا عن الجنوب، الذي جرى تجاهله

إخفاء دور الصعيد

ومــن الــواضــح أن ثـمـة اتـجـاه إلــى إخـفـاء دور األطراف، خصوصًا الصعيد، من الظهور عبر صفحات التاريخ االجتماعي، وهو ما يحاول باحثون عديدون فهمه وتفسيره، ولكن ليس وفقًا للظروف واألبنية الداخلية، ولكن عبر الـــدور االسـتـعـم­ـاري األجـنـبـي، ولـيـس بسبب قــوى أو متغيرات داخـلـيـة، ووفـقـًا لــــــani­traM Ricker «الــنــظــ­ام الــبــريـ­ـطــانــي االســتــع­ــمــاري حـــول سـكـان شـمـال مصر (الـقـاهـرة والدلتا) إلى مواطنني عبر تصنيع الشمال وتحضره؛ بــيــنــم­ــا الـــجـــن­ـــوب تــــم الـــنـــظ­ـــر إلــــيـــ­ـه بــاعــتــ­بــار سكانه مجرد قـوى عمل رخيصة. ومـن هنا، جـرى تجاهل الجنوب وتاريخه، وهـو األمر الـــــذي اتـــفـــق مــعــه ريـــنـــه­ـــارد شــولــتــ­س عـنـدمـا أكــــد عــلــى مــقــولــ­ة «االســتــع­ــمــار االقــتــص­ــادي للريف املــصــري»، حيث ثمة متغير خارجي فـــاعـــل، إال أنـــه رفـــض أن يــكــون حــــراك فاحي األطــراف يجسد عما سياسيًا يــوازي حراك األفـنـديـ­ة فــي الـعـاصـمـ­ة واملــــدن الـكـبـرى، فهو يــــرى أن الــــدعــ­ــوة الــقــومـ­ـيــة إلــــى «االســـتــ­ـقـــال والــحــري­ــة والــعــدا­لــة لــم يـكـن لـهـا املـعـنـى ذاتــه لــــــدى الــــفـــ­ـاحــــني، وبـــيـــن­ـــمـــا اتـــــخــ­ـــذ األفـــنــ­ـديـــة الـدولـة االستعماري­ة هدفًا لجهودهم، اتخذ الــــفـــ­ـاحــــون االســـتــ­ـعـــمـــا­ر الـــشـــا­مـــل لــحــيــا­تــهــم االقتصادية هدفًا لغضبهم».

 ?? )Getty( ?? ميدان العتبة في القاهرة عام 1919
)Getty( ميدان العتبة في القاهرة عام 1919

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar