عندما يصوم السوريون طوال العام
فــي وقـــت يـنـفـق فـيـه بــشــار األســــد الـكـثـيـر من املـــراوغـــة اإلصــالحــيــة عـلـى االنــتــخــابــات التي يـجـريـهـا داخـــل حـــزب الـبـعـث، حــزبــِه الـحـاكـم، كان املتظاهرون في السويداء، جنوبي البالد، يـمـزقـون املــزيــد مــن صــــوره، وصـــور أبــيــه، في أثناء اقتحامهم مقرات حزب البعث في املدينة الـثـائـرة عـلـى الـنـظـام مـنـذ نـحـو سبعة أشهر متواصلة، إذ يكتفي األســد (أو هـذا ما يبدو عليه) بأن يرمي خلف ظهره مصير سورية، وكــأنــهــا عـــبء ال يطيقه، مــن دون أن يخدش هـــذا الــفــعــل الــرخــيــص ضــمــيــره بـــشـــيء، بـــل ال يـجـاهـر بـإفـالسـه الـسـيـاسـي ذاك، وال يفصح عن مقدار هذه «التركة» الثقيلة من االرتهان
ُِّ إلــى الــخــارج، والـتـي يورثها للسورين يومًا بعد يوم، وكأنه يقتص منهم لتطاولهم عليه عـــام .2011 هـــذا الـــعـــام، وقــبــل أن يهبط شهر رمـــضـــان عــلــى الـــســـوريـــن، يـــجـــدون أنـفـسـهـم مجبرين على اإلبحار وسط تضخم ال بر له، إذ ارتفعت أسعار السلع األساسية في أسواق بــالدهــم %200 إن قــارنــوهــا بـمـا كــانــت عليه فــي شهر رمــضــان مــن الــعــام املــاضــي، ويكفي أن يـعـلـمـوا أن نـسـبـة الـتـضـخـم الــتــي طـاولـت السلع الغذائية في أسواق «سورية األسد» قد بلغت %40 منذ بداية العام الحالي، أي خالل ثـالثـة أشـهـر فـقـط، فـي حـن أنـهـا وصـلـت إلى حــدود %150 خـالل العام املـاضـي، ليظل هذا التضخم وحشًا يطاردهم بوصفهم فرائسه األكثر هشاشة وانكسارًا، والذين صاروا على هذا النحو بفعل استبداد السلطة والقابضن على أمرها، لكن، وبينما يتفحصون انحسار قوتهم الشرائية %100 عما كانت عليه عام ،2023 تخرج لهم أسماء األسد مرتدية اللون األزرق، حــــن اجـــتـــمـــعـــت أخــــيــــرًا مــــع مـمـثـلـي الجمعيات الخيرية فـي تلك الـبـالد املوحشة الــتــي تحكمها بـرفـقـة زوجـــهـــا، وكــانــت تحث «لــفــظــيــًا» مـمـثـلـي تــلــك الـجـمـعـيـات عــلــى فعل الخير خالل شهر الصيام الفضيل، خصوصًا للفئات االجتماعية األكثر تضررًا في سورية املنكوبة بحكم هذه العائلة. تـــعـــلـــم أســـــمـــــاء األســـــــــد، ويـــعـــلـــم زوجــــــهــــــا، أن الـــســـوريـــن فـــي داخـــــل الـــبـــالد الـــتـــي يـحـتـلـهـا نظامهم السياسي باتوا جميعًا متضررين، وبــصــورٍة متماثلة، فالضرر هنا ليس صفة قابلة للتفاوت النسبي على نحو كاف يسمح بالقياس عليها، أي ليس من الصائب القول ّّ
ّّ إن ثــمــة فـئـة اجـتـمـاعـيـة مــتــضــررة جـزئـيـًا من الـتـضـخـم فــي ســوريــة، وفـئـة ثـانـيـة مـتـضـررة تضررًا متوسط الشدة، وفئة ثالثة متضررة كليًا من متوالية التضخم التي ال تشبع من مواصلة االرتـفـاع. كـل السوريون متضررون فـــي الـــداخـــل، كــلــهــم مــتــســاوون فـــي الـتـعـاسـة، إال أن أغلبهم يعتمد عـلـى الـــحـــواالت املالية الـــتـــي يـــرســـلـــهـــا إلـــيـــهـــم ذووهـــــــم مــــن الـــخـــارج بصورة شهرية منتظمة، ولوال تلك الحواالت «اإلنـــقـــاذيـــة»، والــتــي قــد ال يـتـجـاوز معظمها مـائـة دوالر شـهـريـًا، لهلك الــســوريــون جوعًا تحت أنظار هذا العالم الرحيم. تــريــد أســمــاء األســــد خـيـمـًا رمــضــانــيــة، يــأوي إليها الجوعى في الشهر الفضيل للحصول عـــلـــى وجــــبــــة تـــطـــهـــوهـــا لـــهـــم غــــــرف الـــتـــجـــارة والصناعة الـسـوريـة، فإلى كـم خيمة تحتاج زوجــة رئيس النظام ليرتاح بـصـرهـا؟! ربما بعدد خيم الالجئن السورين فـي األصقاع املجاورة للبلد الذي نهبه آل األسد، وحولوه إلــى مـقـبـرة جماعية تـتـزاحـم داخـلـهـا الجثث الحية، فال هي تهزم املوت، وال املوت يهزمها، بحيث تأوي العالقة التي تحدد ظهور األسرة الحاكمة لـسـوريـة فــي بعض مظاهر الحياة العامة إلـى هـذا الحيز البصري املستند إلى فعل املشاهدة فقط، هو ظهور «طقسي» إذًا، ويـــســـتـــدل عـلـيـه بــصــريــًا، وبـــال أي مـــراوغـــات إضافية، وال يتخطى مناسبات معدودة طوال العام، وتلك العالقة البصرية، وإن تستبطن نفاقًا كثيرًا، ضرورية لتثبيت الحضور املادي الكثيف ملحتويات األسرة الحاكمة في أذهان الناس، ووعيهم املباشر.
َُّ هـكـذا يـتـم إذابــــة مـعـدن االســتــبــداد، وإرســائــه في قوالب متعددة األشكال، وقد وصفه عبد الــرحــمــن الــكــواكــبــي بــجــزالــتــه الــتــي نـعـرفـهـا، بـأنـه «أســــوأ أنــــواع الـسـيـاسـة، وأكــثــرهــا فتكًا باإلنسان وبغيره في املجتمع املحكوم بالظلم والطغيان، ما يؤدي إلى تراجع في كل مرافق الــحــيــاة ووجـــوهـــهـــا، وإلــــى تـعـطـيـل الــطــاقــات وهـــدرهـــا، وإلـــى ســيــادة الـنـفـاق والـــريـــاء، بن مختلف فئات الشعب، حكامًا ومحكومن». لكن السورين الذين يستمرئون خوفهم من مجابهة سلطة األسد صاروا مجبرين، بمرور الوقت، على تدبيج يومياتهم بذاك املقدار من الــخــوف، يضيفونه إلــى تدويناتهم بـإصـرار غير مـقـصـود، وكـأنـهـم سـجـنـاء وراء قضبان مــرتــبــكــة، وإن وصــــل رمـــضـــان الــفــضــيــل إلــى الضفة السورية بسالم، سيجد الصوم هناك قائمًا قبله. صوم اضطراري اعتاده السوريون وهــم يـصـادقـون على بقاء الطاغية وأسـرتـه، وال يـــــــرون فــــي ذلـــــك ســـــوى اســـتـــمـــالـــة قـــدريـــة مــتــجــبــرة تــعــانــدهــم فـــي الـــخـــالص مـــن طغمة الحكم املستبدة عندهم، بالرغم من كل املزاعم اإلصالحية التي تشبه هــراء يتفوه به بشار األســــد بــن الـفـيـنـة واألخــــــرى، وتــبــدو عـاجـزة كـلـيـًا عـــن أن تـقـنـع طـــفـــال صــغــيــرًا بـجـديـتـهـا. لـذلـك نجد شخصًا، مثل األســتــاذ الـالمـع في العلوم السياسية، األميركي غابرييل أملوند، يـنـفـي كـثـيـرًا أي مــرونــة إصــالحــيــة قــد تتسم بها الديكتاتوريات االستبدادية، إذ يعتبرها مـرادفـًا لعملية تحديث ناقصة، بما تكتنزه من ثقافة مركبة أساسها خضوع ومشاركة مـعـتـمـدة عـلـى أيـديـولـوجـيـات جــامــدة، وعلى سلوك خامل. يـــكـــمـــل الــــســــوريــــون إذًا عـــراكـــهـــم املـــفـــجـــع مـع «مـــتـــالزمـــة األســــد املـــرضـــيـــة» ذاك الـــــداء الـــذي أصــابــهــم جـمـيـعـًا، والــعــالــم املــتــحــضــر يـعـرف جــــيــــدًا كـــيـــف يــــشــــخــــص تـــلـــك اآلفـــــــــة، ويــشــيــر بإصبعه إلى أعراضها املهلكة بال أي ارتياب، لكنه يرفض عالج السورين منها.
صوم اضطراري اعتاده السوريون وهم يصادقون على بقاء الطاغية وأسرته، وال يرون في ذلك إال استمالة قدرية متجبرة تعاندهم في الخالص من طغمة الحكم