Al Araby Al Jadeed

العبور إلى النظام المدني بين الغرب والشرق

- مهنا الحبيل

«سأحاول أن أمزج بن ما يبيحه الحق، وما تـأمـر بــه املـصـلـحـ­ة، لكيال يـفـصـل بــن الـعـدل واملنفعة مطلقًا»... جان جاك روسو. بـــعـــد رحــــلـــ­ـة روســـــــ­ـو فــــي الـــبـــح­ـــث عــــن حــيــاة الـفـرد، دوافــع الخير والشر فيه، في «رسالة التفاوت» و«تربية إميل»، يحرث األرض في سـبـيـل الــقــانـ­ـون االجـتـمـا­عـي نـحـو االنــطــا­لق الفكري األخير لحياته، من فهم الذات الفردية والــجــمـ­ـاعــة الــبــشــ­ريــة، إلـــى فـلـسـفـة الـتـشـريـ­ع وأركانه الفاعلة، وملاذا هذا التشريع. نحتاج الــــعـــ­ـودة إلـــــى جــــــذور األزمـــــ­ــة الـــتـــي عـايـشـهـا روســـو، وأيــن هـي مـن جانبه الشخصي إلى املـجـتـمـ­عـي، ومـــن الــفــرد إلـــى الــجــمــ­اعــة، ومـن بيت األسرة إلى أسرة الوطن. يفتتح روسـو جدله هنا بصيغة اعتراضية مفترضة عـلـيـه، وهـــو ملـــاذا ينتقل إلـــى عالم الــســيــ­اســة، وهــــو لــيــس مــشــتــر­عــًا (بــرملــان­ــيــًا) ولـيـس أمــيــرًا مــن فـريـق الـسـلـطـة، ويــــرد على الـسـؤال االعتراضي املفترض بأنه لو كانت لـــه سـلـطـة أو قــــدرة عــلــى الــتــشــ­ريــع، ملـــا كتب هذا العقد، وملـارس من خالل موقعه الدعوة لهذا التغيير. وهــو تغيير فـي حياة روســو يعني ثــورة، ولذلك التقته الثورة الفرنسية بــعــد رحــيــلــ­ه، لــكــن مــــآالت الـــثـــو­رة الـفـرنـسـ­يـة ونـــمـــا­ذج أخــــرى تــأثــرت بـــروســـ­و فــي أمـيـركـا وأوروبا تحتاج ملراجعة نقدية وفقًا ملعاييره هــو شخصيا، ثــم مــا فـشـل فـيـه وفـشـلـت فيه الـــحـــض­ـــارة الـــغـــر­بـــيـــة فــــي ســقــفــه­ــا الـــحـــد­اثـــي األخـيـر. يستأنف روســـو دفـاعـه هنا بالقول إنــه مــا دام قــد ولـــد حـــرًا فــي دولـــة حـــرة، فهو يحرر واجبه بوصفه عضوًا لجهة السيادة، والسيادة عند روســو هي اإلرادة الشعبية، ويــقــرر أن اإلنــســا­ن الـــذي ولــد حـــرًا مقيد في عــالــم الـــيـــو­م، رغـــم أنـــــه (إنـــســـا­ن أوروبـــــ­ـا) في حينها، بحسب مـا يــراه روســـو، مجرد عبد مقيد فـي كــل مـكـان، وهــو هنا قـد يشير إلى مفهوم اإلنسان العاملي، لكن هذا اإلنسان في الـجـزء الجنوبي الضخم مـن العالم ظــل في هامش التفكير الفلسفي إن لم يكن ضحية

له، في تاريخ الفلسفة الغربية. ويدلل روسو على وجوب ممارسة هذا الحق، وهو التدوين الدستوري للتعاقد االجتماعي، ألن النظام االجتماعي، وهو حياة األفراد واملجتمعات، في سبيل املنفعة التي يقرها الحق والعدل، حــق مـقـدس يصلح قـاعـدة لجميع الحقوق، ومــا دام ال يـصـدر عـن الطبيعة، وإنـمـا على العهود التي يقطعها الـنـاس على أنفسهم، وتــنــظــ­م قـوانـيـنـ­هـم، فــال بــد مــن تـشـريـع هـذه العهود، وتحويلها إلى نظام قانوني نافذ، يـحـقـق املـقـصـد الــــذي حــــدده روســــو للنظام االجـــتــ­ـمـــاعـــ­ي. حــســنــًا، تــحــتــا­ج هــــذه املــقــدم­ــة الثورية التي ذكر بها روسو في مقدمة الباب األول مــنــاقــ­شــة وتـــحـــر­يـــرًا فـــكـــري­ـــًا، جـــــزء منه فـي رصــد املسيرة الحضارية الغربية، منذ انطالقة فقه التشريع الدستوري، وتحريرات الـتـعـاقـ­د االجـتـمـا­عـي الــتــي سبقته، وهـــو ما رصدنا تاريخه في خريطة روســو املعرفية والذهنية. والثاني في تجريد مبادئ روسو وتـــحـــر­يـــراتـــ­ه، فـــي رحـــلـــة االســــتـ­ـــغــــرا­ب، الــتــي نبعثها لفهم أثـر هـذه التشريعات، وتفكيك أصـل فكرتها الفلسفية في العالم الجنوبي اآلخر، وبالذات في الشرق املسلم. يـــطـــرح هــــذا لــديــنــ­ا أســئــلــ­ة كـــبـــرى نـــحـــاو­ل أن نــحــصــر­هــا، قــبــل املـــضـــ­ي فـــي عـــالـــم الـتـشـريـ­ع الــدســتـ­ـوري: أوال: هــل املـنـطـلـ­قـات اإلنـسـانـ­يـة البحتة لطبيعة الــــذات اإلنـسـانـ­يـة، فــي عالم الـوجـود األرضـــي، وفــي خصوصية اإلنسان كـكـائـن عــاقــل أخـــالقــ­ـي، وهـــو الـتـعـريـ­ف الـــذي

يـسـتـخـلـ­ص مــن املــفــهـ­ـوم اإلســـالم­ـــي لـلـوجـود وسّر االستخالف، خالفًا للمفهوم الدارويني، هي مشتركة بن عالم اإلنسان في كل مكان؟ وهل تاريخ تشكل الـذات الوجودية لإلنسان متفق عليه بن الغرب والشرق، أم أن إنسانه مـــخـــتـ­ــلـــف، وهـــــــذ­ا قـــبـــل الــــتـــ­ـأويــــال­ت الــغــربـ­ـيــة املـــتـــ­طـــّرفـــة فــــي تــفــســي­ــر املـــــــ­ـادة وهــيــمــ­نــتــهــا؟ الــجــواب هنا املتفق عليه فـي طبيعة الخلق الـبـشـري الـفـطـري أنـهـا طبائع مـتـحـدة أينما كان إنسانها. أما الثاني فهو في حاجة هذه املـجـتـمـ­عـات عــنــد نــشــأتــ­هــا، وتـــطـــو­ر حياتها وفـقـًا ملقتضيات الـعـصـور وطبيعة التفاعل مــع حقب الــزمــان والــحــضـ­ـارات، وهــي حاجة قديمة ال حديثة، فهل مجتمعاتنا في الشرق، املسلمة عـلـى الــخــصــ­وص، بـغـض الـنـظـر عن املـــــآز­ق األخـــالق­ـــيـــة الــتــي فـشـلـت فـيـهـا الــدولــة املـدنـيـة فــي الــغــرب، احـتـاجـت أن تنظم إدارة حــيــاتــ­هــا وحــقــوقـ­ـهــا، عــبــر تــعــاقــ­د اجـتـمـاعـ­ي يحقق للفرد مساحة حقوق متساوية، بناء على املـبـادئ العليا لهذا العقد املتفق عليه، والــتــي ســتــحــد­د وتـــوثـــ­ق بــنــاء عـلـى العقيدة الــفــكــ­ريــة األخــالقـ­ـيــة الـتـشـريـ­عـيـة اإلســالمـ­ـيــة، وأصولها املفارقة عن أصول الفلسفة الغربية في املعتقد، وفي رسالة اإلنسان في الحياة، فهل منظومة اإليمان تكفي للعبور إلى حياة املجتمعات وقوانينها، أم أن تلك الحاجة التي جددت علم االجتماع في الغرب بكل حيوية، هــــي حــــاضـــ­ـرة ومـــتـــص­ـــلـــة بــــقــــ­وة فــــي أزمـــتـــ­نـــا الـشـرقـيـ­ة، لـيـس مــن خـــالل مـنـاسـخـة املـفـهـوم

في الدستور وفي منظومات الحقوق، ولكن فــي فــكــرة تـشـريـعـه ونــشــر مفاهيمه وتـربـيـة األجـــيــ­ـال عــلــيــه، بـــنـــاء عــلــى املــقــاص­ــد الـعـلـيـا. فلماذا لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بـمـفـاهـي­ـم اإليــــمـ­ـــان، حـــن وصــــل إلــــى املـديـنـة وقـال للمجتمع اليثربي إن اإليمان الروحي سيكفيكم كإطار قانوني، وخالفًا لذلك عمد إلـى تدوين ميثاق املدينة، وإعالنه كتشريع تــوافــقـ­ـي بـــن املـسـلـمـ­ن وغــيــرهـ­ـم. وبـالـتـال­ـي، دشن في تاريخ التشريع اإلسالمي أول تعاقد اجتماعي، وهذا يعني أن هناك مشتركًا بن الـحـضـارت­ـن، اإلسـالمـي­ـة والـغـربـي­ـة واألســـرة اإلنسانية في هذا االحتياج الضروري. لكن مـاذا عن مفهومي التفاصل والتجسيد لـــهـــيـ­ــاكـــل الــــــدو­لــــــة، بــــن الــــدولـ­ـــتــــن، األمـــمــ­ـيـــة واملدنية الغربية، هل هذا يعني القطيعة مع الفقه الدستوري التشريعي، وهل هذه الدولة األممية التي تأخرت أو سقطت في صراعات كـــبـــرى، مــنــذ الــلــحــ­ظــة األمـــويـ­ــة ومــــا بــعــدهــ­ا، كانت في غنى عن منظومة تشريع للحقوق الدستورية، تنطلق من ميثاق املدينة، وتنظر في كل عهد وحضارة تتداخل معها، وأطوار زمنية... فنعقد للمنفعة والحق إطارًا جامعًا، تــــحــــ­دده الــشــريـ­ـعــة ال اإلنـــســ­ـانـــويــ­ـة الــغــربـ­ـيــة املـــاديـ­ــة؟ فـهـل غـيـاب هـــذا املــــدار الـتـعـبـد­ي في الـعـمـران االجتماعي كــان ملصلحة املسلمن منذ الدولة األممية حتى القطرية، أم كان أحد أسباب كوارثهم وتخلفهم وهزيمتهم؟

مآالت الثورة الفرنسية ونماذج أخرى تأثرت بروسو في أميركا وأوروبا تحتاج إلى مراجعة نقدية وفقًا لمعاييره هو شخصيًا

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar