العبور إلى النظام المدني بين الغرب والشرق
«سأحاول أن أمزج بن ما يبيحه الحق، وما تـأمـر بــه املـصـلـحـة، لكيال يـفـصـل بــن الـعـدل واملنفعة مطلقًا»... جان جاك روسو. بـــعـــد رحــــلــــة روســــــــو فــــي الـــبـــحـــث عــــن حــيــاة الـفـرد، دوافــع الخير والشر فيه، في «رسالة التفاوت» و«تربية إميل»، يحرث األرض في سـبـيـل الــقــانــون االجـتـمـاعـي نـحـو االنــطــالق الفكري األخير لحياته، من فهم الذات الفردية والــجــمــاعــة الــبــشــريــة، إلـــى فـلـسـفـة الـتـشـريـع وأركانه الفاعلة، وملاذا هذا التشريع. نحتاج الــــعــــودة إلـــــى جــــــذور األزمـــــــة الـــتـــي عـايـشـهـا روســـو، وأيــن هـي مـن جانبه الشخصي إلى املـجـتـمـعـي، ومـــن الــفــرد إلـــى الــجــمــاعــة، ومـن بيت األسرة إلى أسرة الوطن. يفتتح روسـو جدله هنا بصيغة اعتراضية مفترضة عـلـيـه، وهـــو ملـــاذا ينتقل إلـــى عالم الــســيــاســة، وهــــو لــيــس مــشــتــرعــًا (بــرملــانــيــًا) ولـيـس أمــيــرًا مــن فـريـق الـسـلـطـة، ويــــرد على الـسـؤال االعتراضي املفترض بأنه لو كانت لـــه سـلـطـة أو قــــدرة عــلــى الــتــشــريــع، ملـــا كتب هذا العقد، وملـارس من خالل موقعه الدعوة لهذا التغيير. وهــو تغيير فـي حياة روســو يعني ثــورة، ولذلك التقته الثورة الفرنسية بــعــد رحــيــلــه، لــكــن مــــآالت الـــثـــورة الـفـرنـسـيـة ونـــمـــاذج أخــــرى تــأثــرت بـــروســـو فــي أمـيـركـا وأوروبا تحتاج ملراجعة نقدية وفقًا ملعاييره هــو شخصيا، ثــم مــا فـشـل فـيـه وفـشـلـت فيه الـــحـــضـــارة الـــغـــربـــيـــة فــــي ســقــفــهــا الـــحـــداثـــي األخـيـر. يستأنف روســـو دفـاعـه هنا بالقول إنــه مــا دام قــد ولـــد حـــرًا فــي دولـــة حـــرة، فهو يحرر واجبه بوصفه عضوًا لجهة السيادة، والسيادة عند روســو هي اإلرادة الشعبية، ويــقــرر أن اإلنــســان الـــذي ولــد حـــرًا مقيد في عــالــم الـــيـــوم، رغـــم أنـــــه (إنـــســـان أوروبــــــا) في حينها، بحسب مـا يــراه روســـو، مجرد عبد مقيد فـي كــل مـكـان، وهــو هنا قـد يشير إلى مفهوم اإلنسان العاملي، لكن هذا اإلنسان في الـجـزء الجنوبي الضخم مـن العالم ظــل في هامش التفكير الفلسفي إن لم يكن ضحية
له، في تاريخ الفلسفة الغربية. ويدلل روسو على وجوب ممارسة هذا الحق، وهو التدوين الدستوري للتعاقد االجتماعي، ألن النظام االجتماعي، وهو حياة األفراد واملجتمعات، في سبيل املنفعة التي يقرها الحق والعدل، حــق مـقـدس يصلح قـاعـدة لجميع الحقوق، ومــا دام ال يـصـدر عـن الطبيعة، وإنـمـا على العهود التي يقطعها الـنـاس على أنفسهم، وتــنــظــم قـوانـيـنـهـم، فــال بــد مــن تـشـريـع هـذه العهود، وتحويلها إلى نظام قانوني نافذ، يـحـقـق املـقـصـد الــــذي حــــدده روســــو للنظام االجـــتـــمـــاعـــي. حــســنــًا، تــحــتــاج هــــذه املــقــدمــة الثورية التي ذكر بها روسو في مقدمة الباب األول مــنــاقــشــة وتـــحـــريـــرًا فـــكـــريـــًا، جـــــزء منه فـي رصــد املسيرة الحضارية الغربية، منذ انطالقة فقه التشريع الدستوري، وتحريرات الـتـعـاقـد االجـتـمـاعـي الــتــي سبقته، وهـــو ما رصدنا تاريخه في خريطة روســو املعرفية والذهنية. والثاني في تجريد مبادئ روسو وتـــحـــريـــراتـــه، فـــي رحـــلـــة االســــتــــغــــراب، الــتــي نبعثها لفهم أثـر هـذه التشريعات، وتفكيك أصـل فكرتها الفلسفية في العالم الجنوبي اآلخر، وبالذات في الشرق املسلم. يـــطـــرح هــــذا لــديــنــا أســئــلــة كـــبـــرى نـــحـــاول أن نــحــصــرهــا، قــبــل املـــضـــي فـــي عـــالـــم الـتـشـريـع الــدســتــوري: أوال: هــل املـنـطـلـقـات اإلنـسـانـيـة البحتة لطبيعة الــــذات اإلنـسـانـيـة، فــي عالم الـوجـود األرضـــي، وفــي خصوصية اإلنسان كـكـائـن عــاقــل أخـــالقـــي، وهـــو الـتـعـريـف الـــذي
يـسـتـخـلـص مــن املــفــهــوم اإلســـالمـــي لـلـوجـود وسّر االستخالف، خالفًا للمفهوم الدارويني، هي مشتركة بن عالم اإلنسان في كل مكان؟ وهل تاريخ تشكل الـذات الوجودية لإلنسان متفق عليه بن الغرب والشرق، أم أن إنسانه مـــخـــتـــلـــف، وهـــــــذا قـــبـــل الــــتــــأويــــالت الــغــربــيــة املـــتـــطـــّرفـــة فــــي تــفــســيــر املــــــــادة وهــيــمــنــتــهــا؟ الــجــواب هنا املتفق عليه فـي طبيعة الخلق الـبـشـري الـفـطـري أنـهـا طبائع مـتـحـدة أينما كان إنسانها. أما الثاني فهو في حاجة هذه املـجـتـمـعـات عــنــد نــشــأتــهــا، وتـــطـــور حياتها وفـقـًا ملقتضيات الـعـصـور وطبيعة التفاعل مــع حقب الــزمــان والــحــضــارات، وهــي حاجة قديمة ال حديثة، فهل مجتمعاتنا في الشرق، املسلمة عـلـى الــخــصــوص، بـغـض الـنـظـر عن املـــــآزق األخـــالقـــيـــة الــتــي فـشـلـت فـيـهـا الــدولــة املـدنـيـة فــي الــغــرب، احـتـاجـت أن تنظم إدارة حــيــاتــهــا وحــقــوقــهــا، عــبــر تــعــاقــد اجـتـمـاعـي يحقق للفرد مساحة حقوق متساوية، بناء على املـبـادئ العليا لهذا العقد املتفق عليه، والــتــي ســتــحــدد وتـــوثـــق بــنــاء عـلـى العقيدة الــفــكــريــة األخــالقــيــة الـتـشـريـعـيـة اإلســالمــيــة، وأصولها املفارقة عن أصول الفلسفة الغربية في املعتقد، وفي رسالة اإلنسان في الحياة، فهل منظومة اإليمان تكفي للعبور إلى حياة املجتمعات وقوانينها، أم أن تلك الحاجة التي جددت علم االجتماع في الغرب بكل حيوية، هــــي حــــاضــــرة ومـــتـــصـــلـــة بــــقــــوة فــــي أزمـــتـــنـــا الـشـرقـيـة، لـيـس مــن خـــالل مـنـاسـخـة املـفـهـوم
في الدستور وفي منظومات الحقوق، ولكن فــي فــكــرة تـشـريـعـه ونــشــر مفاهيمه وتـربـيـة األجـــيـــال عــلــيــه، بـــنـــاء عــلــى املــقــاصــد الـعـلـيـا. فلماذا لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بـمـفـاهـيـم اإليــــمــــان، حـــن وصــــل إلــــى املـديـنـة وقـال للمجتمع اليثربي إن اإليمان الروحي سيكفيكم كإطار قانوني، وخالفًا لذلك عمد إلـى تدوين ميثاق املدينة، وإعالنه كتشريع تــوافــقــي بـــن املـسـلـمـن وغــيــرهــم. وبـالـتـالـي، دشن في تاريخ التشريع اإلسالمي أول تعاقد اجتماعي، وهذا يعني أن هناك مشتركًا بن الـحـضـارتـن، اإلسـالمـيـة والـغـربـيـة واألســـرة اإلنسانية في هذا االحتياج الضروري. لكن مـاذا عن مفهومي التفاصل والتجسيد لـــهـــيـــاكـــل الــــــدولــــــة، بــــن الــــدولــــتــــن، األمـــمـــيـــة واملدنية الغربية، هل هذا يعني القطيعة مع الفقه الدستوري التشريعي، وهل هذه الدولة األممية التي تأخرت أو سقطت في صراعات كـــبـــرى، مــنــذ الــلــحــظــة األمـــويـــة ومــــا بــعــدهــا، كانت في غنى عن منظومة تشريع للحقوق الدستورية، تنطلق من ميثاق املدينة، وتنظر في كل عهد وحضارة تتداخل معها، وأطوار زمنية... فنعقد للمنفعة والحق إطارًا جامعًا، تــــحــــدده الــشــريــعــة ال اإلنـــســـانـــويـــة الــغــربــيــة املـــاديـــة؟ فـهـل غـيـاب هـــذا املــــدار الـتـعـبـدي في الـعـمـران االجتماعي كــان ملصلحة املسلمن منذ الدولة األممية حتى القطرية، أم كان أحد أسباب كوارثهم وتخلفهم وهزيمتهم؟
مآالت الثورة الفرنسية ونماذج أخرى تأثرت بروسو في أميركا وأوروبا تحتاج إلى مراجعة نقدية وفقًا لمعاييره هو شخصيًا