تمزيق لوحة بلفور... وعٌد آخر بالتخريب
تــــزامــــن يـــــوم املــــــــرأة الـــعـــاملـــي الـــــــذي تـعـيـشـه الفلسطينيات في قطاع غزة في ظل املجاعة واإلبـادة، مع قيام ناشطة برش دهان أحمر الـــلـــون عــلــى لـــوحـــة لـــلـــورد آرثـــــر بـــلـــفـــور، ثم تمزيقها بالسكني. اللوحة املعلقة في جامعة كامبريدج في بريطانيا، أقرب إلى بورتريه لصاحب الـوعـد املــشــؤوم الـــذي قـــدم للزعيم الـصـهـيـونـي، ليونيل والــتــر روتـشـيـلـد، في عـــام ،1917 والــــذي يـنـص عـلـى مـنـح اليهود «وطنا» في فلسطني. أرفــق الفيديو لعملية االحتجاج/التخريب بعبارة «إعــان بلفور كــــان بـــدايـــة الـتـطـهـيـر الــعــرقــي فـــي فلسطني عبر الوعد بمنح األرض، األمر الذي لم يكن لبريطانيا حـق بالقيام بــه». هـذه العبارات لــيــســت جــــديــــدة، وال يـهـمـنـا حـقـيـقـة نـقـاش أحقية الوعد أو قانونيته، خصوصا اآلن في ظل اإلبادة الجماعية العلنية للفلسطينيني في قطاع غزة. ما يهم هو تدمير الرموز، ولو كانت تقبع تحت مسمى «فن». الـــلـــوحـــة الـــتـــي أنـــجـــزهـــا الـــهـــنـــغـــاري Philip Alexius de László في عام ،1914 ال تختلف عــن الــبــورتــريــهــات الــتــي كــانــت مـنـتـشـرة في تلك الحقبة. بورتريهات تختزل املكانة التي يمتلكها صاحبها (رئـيـس الــــوزراء بلفور) عبر التاعب بمكونات اللوحة، كالتحديق بـــعـــيـــدًا والـــــشـــــال األحــــمــــر املـــحـــيـــط بــجــســده والكتاب املفتوح الغامض. مــــا يـــهـــم هــــو فـــعـــل الـــتـــخـــريـــب نـــفـــســـه، الــــذي يـــســـتـــهـــدف صـــــــورة لــشــخــصــيــة ســـيـــاســـيـــة، خـــربـــت احـتـجـاجـا عـلـى وعـــد غـيـر قـانـونـي، وتـــســـبـــب بــــ«تـــطـــهـــيـــر عـــــرقـــــي»، مــــا يــعــيــدنــا
إلــــى الــنــقــاش حــــول تـمـثـيـات الـشـخـصـيـات التاريخية والحق باستعراضها أو الحفاظ عليها، كما في الواليات املتحدة األميركية، حــيــث اســتــهــدفــت تـمـاثـيـل الــعــديــد مـــن قـــادة الكونفدرالية أنصار العبودية وماك العبيد، ووصل األمر إلى تخريب تماثيل كريستوفر كولومبوس بوصفه تسبب بارتكاب إبـادة جماعية بحق السكان األصليني، ما أشعل الــجــدل حـــول ضــــرورة الـحـفـاظ عـلـى الـرمـوز التاريخية، وليس حماية األعمال الفنية. تــخــريــب األعــــمــــال الــفــنــيــة احــتــجــاجــا على قــضــايــا مــتــعــددة لــيــس جـــديـــدًا، ســــواء كــان الـحـديـث عــن املــنــاخ أو الـطـعـام الصحي أو استخدام الوقود األحـفـوري. وفـي كل مرة، نرى أنفسنا أمام ترند ينتهي بعد يوم على األكثر. وعلى الرغم من أن تخريب بورترية بلفور لـم يغير أي شــيء مـن الــعــدوان على قطاع غـزة، لكن هناك قيمة رمزية مختلفة عن أعمال التخريب األخرى. املشهد كاآلتي: ناشطة في يوم املرأة، خربت لوحة لسياسي قدم وعدًا ليس قانونيا، نتج عـنـه تطهير عــرقــي مـمـتـد لــســنــوات طـويـلـة. األذيــة الفنية هنا ذات قيمة رمزية مشابهة لقيمة اللوحة التي تحتفي بالسياسي، تلك التي ال رهان على املال فيها كونها موجودة
في جامعة. البادرة هنا شديدة الرمزية، وال يمكن القول إنها مشابهة لتلطيخ املوناليزا املحمية وراء الزجاج املضاد للرصاص. نميل إلى الظن أن هذا النوع من اللوحات، خصوصا البورتريه ذات الطابع السياسي، وهو نوعا ما تجاري، ليس نتاج «عبقرية» الفنان، بـل مكلف بإنجاز اللوحة. وتمتلك هـــــذه قـــيـــمـــة مـــشـــابـــهـــة لــقــيــمــة الـــبـــوســـتـــرات الــســيــاســيــة، تــلــك الــتــي تــتــعــرض للتخريب والـــتـــمـــزيـــق بـــصـــورة دائــــمــــة، كـــحـــال صـــورة أي سياسي أو مـرشـح لانتخابات فـي أي مــكــان فـــي الـــعـــالـــم، واالحـــتـــفـــاء بــهــا ال ينبع من قيمتها الفنية، بل من الثقل السياسي للشخصية نفسها. مفارقة أخـرى ال بد من اإلشــارة إليها، تتمثل في أن التخريب هنا ال يــمــس قـضـيـة شـــديـــدة ًّ الــعــمــومــيــةكــأزمــة املناخ، بل هدفا محددًا وشخصية محددة. األمــــر مــشــابــه ملـــا تــعــرضــت لـــه اإلسـرائـيـلـيـة زويـــــا تــشــيــركــاســكــي )Zoya Cherkassky( مـــن احــتــجــاج وتـعـطـيـل لـــنـــدوة أدارتـــهـــا في نيويورك عن مجموعتها التي تحمل اسم 7« أكتوبر - ،»2023 والتي تصور ما تعرض له اإلسرائيليون إثر هجمات حماس، إذ عا صوت املحتجني وأنصار الحق الفلسطيني مــتــهــمــني إيــــاهــــا بـــمـــمـــارســـة «الـــبـــروبـــاغـــنـــدا اإلمبريالية»، وتجاهل ما يتعرض له قطاع غــزة مـن إبـــادة، مـا يؤكد أن االحتجاج ضد العمل الفني إن كان في لحظة مناسبة، فهو بحد ذاتـــه يمثل قيمة ال تختلف عــن قيمة العمل نفسه، لتتحول اللوحة إلـى مساحة لـــلـــصـــراع الـــســـيـــاســـّي، ســــــواء ُرســــمــــت بـعـد أسبوع أو أكثر من طوفان األقصى، كحالة لوحات زويا، أو قبل 100 عام.