Al Araby Al Jadeed

عن الكفاءات الجزائرية في المهجر

- محمد سي بشير

تــطــل علينا وســائــل اإلعـــــا­لم، فــي الـجـزائـر، بن الفينة واألخرى، ببرامج عن جزائرين بـــــرزوا فـــي مــيــاديـ­ـن شـــتـــى فـــي املــهــجـ­ـر، في أمـــيـــر­كـــا وأوروبــــ­ــــا والـــخـــ­لـــيـــج، وهـــــم، بــحــق، كـفـاءات جزائرية تعلم أغلبهم في مـدارس الـــبـــا­لد وجــامــعـ­ـاتــهــا، ثــــم ســـافـــر­وا لــيــبــر­زوا مـــهـــار­اتـــهـــم، مـــا يــثــيــر الـــغـــر­ابـــة ويـــدفـــ­عُ إلــى طرح إشكال: ملـاذا سافر هـؤالء وملــاذا أتيح لهم الظهور في الخارج وليس في بلدهم، الجزائر؟ تـــحـــاو­ل املـــقـــ­الـــة الــبــحــ­ث فـــي أســـبـــا­ب هـجـرة الــــكـــ­ـفــــاءات أو مــــا يــــعــــ­رف، فــــي لـــغـــة املــــــو­ارد الـبـشـريـ­ة، بــاملــاد­ة الــرمــاد­يــة، فثمة تداعيات كبيرة على فقدان الجزائر فرصة االستفادة مــن ّكـــفـــاء­اٍت جـــرى تـأهـيـلـه­ـا فــي الـــبـــا­لد، وال يــتــم االســـتــ­ـفـــادة مـــن اســتــثــ­مــار هـــو األغــنــى، االسـتـثـم­ـار فـي اإلنــســا­ن، فهل مـــرد اإلشـكـال السياسة العامة للتشغيل، للتكوين، بمعناه الواسع، أم ثمة أسباب أخـرى، يجب البحث عنها لوقف النزيف وإشـــراك تلك الكفاءات فـــي بـــنـــاء نـــمـــوذ­ج اإلبــــــ­داع واالبـــتـ­ــكـــار، هـنـا، وليس ملصلحة اآلخـريـن، مـع االعـتـراف بـأن التواصل بن مختلف البيئات أو العمل في ميادين بعينها، في الخارج، قد يكون، على املدى املتوسط، مفيدًا للوطن ولعجلة التقدم فيه من خالل تراكم ّالتجارب، بصفة خاصة؟ هـنـاك توطئة ال بــد منها لتناول مثل هذا املـوضــوع، وهـو الخلفية السوسيولوج­ية الــتــي يـمـكـن رؤيــــة اإلشــكــا­لــيــة مـــن خـاللـهـا، حيث ينقسم املجتمع من حيث تركيبته إلى ثــالث طبقات: األثــريــ­اء، الطبقة املتوسطة، وتـــلـــي­ـــهـــمــ­ـا، فــــي قـــــاع املـــثـــ­لـــث االجـــتــ­ـمـــاعـــ­ي، الـــطـــب­ـــقـــة الـــفـــق­ـــيـــرة. وال يـــمـــكـ­ــن، وفـــــق رؤى علماء االجـتـمـا­ع، ألي مجتمع أن تستقيم تركيبته وينعم بالحركية والـحـيـوي­ـة، إذا لم يكن ثمة اهتمام بالطبقة املتوسطة التي تعرف برمانة املجتمع. وكلما كانت أقرب إلـى الحرية والكرامة في مـؤشـرات العيش وتوفير فـضـاءات االبـتـكـا­ر واإلبــــد­اع أقــرب، كانت تلك الطبقة قاطرة التغيير واإلبــداع فــــي املـــجـــ­تـــمـــع، بـــمـــا تـــزخـــر بــــه مــــن كـــفـــاء ات

ونخبة في مختلف األصعدة، وهو ما كانت الجزائر تتوفر عليه إلى زمن قريب، بفضل منظومة تربوية وجامعية كانت ذات كفاءة في التكوين وتخريج نوعي للكفاءات، من أمــثــال الــذيــن انتقلوا إلــى الــخــارج وبـرعـوا فيه، في تلك امليادين، بل أضـافـوا إلـى تلك املـــــهـ­ــــارات مــــهــــ­ارات أخــــــرى اكــتــســ­بــوهــا فـي بيئات عمل وبحث جيدة، وصلت بهم إلى الصيت الذي أصبحوا عليه. نصل إلـى ذلـك االهتمام اإلعالمي لكفاءات جــــزائــ­ــريــــة بـــــــرز­ت فــــي الـــــخــ­ـــارج، ولـــــم تـجـد مكانا لها تنخرط، مـن خـاللـه، فـي مخطط بــنــاء االقــتــص­ــاد الـــجـــز­ائـــري، ذلـــك االهـتـمـا­م الذي ال يبرز إال منجزات تلك الكفاءات في الخارج، من دون أن يطرح اإلشكالية األجدر بالبحث معهم، وهي الظروف التي دعتهم إلى ترك البالد والهجرة إلى مواطن الكشف عن مهاراتهم أو، لنبسط األمــر، أكثر، ملاذا لم تعقد تلك القنوات اإلعالمية نقاشات/ جلسات بقصد الكشف عن اإلشكاالت التي يـطـرحـهـا مــوضــوع هــجــرة الـــكـــف­ـــاءات، على غــــرار االســتــث­ــمــار فـــي املـــــوا­رد الــبــشــ­ريــة من خـــالل مـــؤشـــر­ات الـتـكـالـ­يـف (تـصـل تكاليف تكوين إطار في أي ميدان تقني إلى ما يربو على مائة ألف دوالر وقريب من ذلك املبلغ تكاليف تكوين طبيب عـام قد تضاف إليه حوالي 20 ألـف دوالر إذا كـان ذلـك الطبيب مـــتـــخـ­ــصـــصـــ­ا). أســــبـــ­ـاب ضـــعـــف أداء بـيـئـة البحث عندنا، تداعيات عدم إيجاد الظروف الـجـاذبـة/ الحافظة ملــواردنـ­ـا البشرية ذات الــكــفــ­اءة الـعـلـيـا، أســبــاب تــــردي مستويات املنظومتن التربويــة والجامعية، ملــاذا ال تــوفــر بيئة الـعـمـل عـنـدنـا إمـكـانـيـ­ة األجـــور املرتفعة في مستوى مهارات تلك الكفاءات ومردودها؟ كـمـا ال يمكن إغــفــال الــحــديـ­ـث، هــنــا، ونحن نـــتـــحـ­ــدث عـــن إشــــكـــ­ـاالت هـــجـــرة الـــكـــف­ـــاءات، اإلشــــــ­ارة إلــــى مــنــاخ األعـــمــ­ـال والــتــعـ­ـقــيــدات الــبــيــ­روقــراطــ­يــة الــتــي تــحــول دون تجسيد مـشـاريـع إنــشــاء مـؤسـسـات تـكـون حاضنة لـأفـكـار ومنتجة لالبتكار بشتى أنـواعـه، خصوصا منها ما أضحى يعرف بالذكاء االصــــطـ­ـــنــــاع­ــــي أو االبـــــت­ـــــكــــ­ـار االفــــتـ­ـــراضــــ­ي

واملـــعــ­ـلـــومـــ­اتـــي بـــكـــل مــــا يـــتـــوف­ـــر عـــلـــيـ­ــه مـن متغيرات تمس حياة الناس اليومية. في الحقيقة، تدعو تلك اإلشكاالت، لو أنها طرحت، بحق، إلى تشخيص ظاهرة هجرة الكفاءات إلى الخارج كما تطرح، في الوقت نفسه، إشكاالت تشير إلى فهم ملاذا فشلت السياسات العامة في البالد، على األصعدة كلها، في توفير ظــروف تحافظ، وال تطرد تلك الكفاء ات، وبسبب إغفال تلك املعالجات اإلعـالمـي­ـة لتلك اإلشــكــا­الت، فـــان عملها قد يـــكـــون دعـــــوة إضـــافـــ­يـــة إلــــى تــصــديــ­ر ملـعـان الــجــهــ­ات الــجــاذب­ــة لـتـلـك الـــكـــف­ـــاءات لـتـغـادر مـــــوارد أخــــرى إضــافــيـ­ـة، كـمــا هــاجــر اآلالف من األطباء، واملهندسون، والباحثون، منذ الــعــشــ­ريــة الـــســـو­داء فـــي تـسـعـيـنـ­يـات الــقــرن املـــاضــ­ـي) إلـــى فـــضـــاء­ات تــوفــر بـيـئـات عمل أفضل من الجزائر. بـــالـــت­ـــأكـــيـ­ــد، يـــجـــب أال يــفــهــم أصــــحـــ­ـاب تـلـك الــقــنــ­وات أن الـكـاتـب هـنـا يـرفـض التعريف بـتـلـك الـشـخـصـي­ـات املــرمــو­قــة الــتــي تصنع الـنـجـاح وتــكــون مـحـفـزًا وحــافــزًا للمبدعن وأصـــحـــ­اب األفـــكــ­ـار لـتـمـثـل نـجـاحـاتـ­هـم في مــســارات­ــهــم، لــكــن، نــريــد أن تــطــرح مـــع تلك الــــنـــ­ـجــــاحــ­ــات إشـــكـــا­لـــيـــات مـــانـــع­ـــة مــــن تـلـك الـشـخـصـي­ـات مـــن أن تــكــون عــنــصــرًا فــاعــال فـي بلدهم، فـي تقدمه وفــي استفادته مما تــزخــر بــه عـقـولـهـم، وبــخــاصـ­ـة أنــنــا نعيش حاليا عصرًا لأفكار فيه املكانة املحورية في إنتاج العلم، املعرفة واالبتكار وتحويل ذلك إلى ناتج خام تتنافس فيه الدول على الريادة في العالم. نريد، هنا، الشد على أيــدي وزارة التعليم العالي التي جعلت من العام املاضي )2023( عاما للذكاء االصطناعي ملرافقة املبدعن، وهـم كثر، في الجزائر، ومشاريع بحوثهم كثيرة بعضها لم يبرح أدراج مخابر البحث في الـبـالد، ألسباب كثيرة، ربما أشير إلى بعضها، كما نريد من الوزارة أن تعقد تلك الجلسات التي يجري فيها الـنـقـاش حول اإلبــــــ­ـداع، قـيـمـتـه، تـكـالـيـف­ـه، فــاعــلــ­يــه، وملــــاذا يهاجر بعض منهم وكيف يمكن، بمبادرات وسياسات عامة، الحفاظ على بقائهم في بــالدهــم منتجن للمعرفة ومــشــارك­ــن في

صـنـع تــطــور الـــبـــا­لد. نــريــد حــلــوال لـظـاهـرة هــجــرة تـلـك الــعــقــ­ول مــن خـــالل ســـن قـوانـن أســـاســـ­يـــة تـــرفـــع مـــن شــأنــهــ­م فـــي املـجـتـمـ­ع، وتوفر لهم أجورًا الئقة بإبداعاتهم، وتفتح لهم املـجـال للمقاوالتي­ة مـن دون تعقيدات وبمساعدات مالية في شكل شراكات، نرى في بيئات أخرى كيف استطاعت أن تجذب املبدعن، وتجعل منهم أصحاب املليارات بعملهم. نريد أن تتحول الدعوة تلك عاما لـــلـــذك­ـــاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي، ومــنــعــ­رجــا إليــجــاد مناحي أعمال يتيح تجسيد تلك الشراكات من خالل مسار يحول البحوث إلى مشاريع تقدم أمــام مؤسسات حاضنة للمقاوالتي­ة (الــــوزار­ة مــوجــودة)، وتـنـال مـقـدار تجسيد تـلـك األفــكــا­ر فــي شـكـل تـعـاقـدات مـالـيـة يتم رســـم مـعـاملـهـ­ا إمـــا قــروضــا أو شـــراكـــ­ات مع ضـمـان تشغيل أيـــد عاملة مبدعة وتوفير عـــقـــار­ات ومـــقـــا­ر لتلك الــشــركـ­ـات عـلـى شكل مدن للعلم واإلبــداع وشكل شركات «ستار أب» ‪.)Star Up(‬ ويمكن لتلك الشخصيات الـــتـــي تــــدعـــ­ـى إلـــــى الـــجـــز­ائـــر مـــمـــن جـــســـدو­ا أفكارهم فـي املهجر ونجحوا فـي أن تكون هــــي الــــراسـ­ـــمــــة لــــذلـــ­ـك املــــســ­ــار مــــع ســلــطــا­ت واسعة في اإلشــراف على التنفيذ ومراقبة التجسيد الفعلي لتلك األفكار. هي دعوة إلى تلك القنوات اإلعالمية وإلى وزارة التعليم العالي لرسم شراكة يتم فيها التركيز على النجاح، مع تشخيص معالم جــدلــيــ­ة الـــجـــذ­ب والــــطــ­ــرد، مـــــردود الــنــجــ­اح، وتــداعــي­ــات التجسيد الفعلي للمقاوالتي­ة كما يجب أن تكون، خصوصا إذا ترافق ذلك بعامل االستفادة من تجربة الناجحن ممن يجري تركيز األضواء عليهم. إنها دعوة إلى اإلبداع وتجسيد عالم األفكار بتقييم مناخ العلم في بـالدنـا، ولـم ال ننطلق من عوامل الــفــشــ­ل، ســابــقــ­ا، لـصـنـع الــنــجــ­اح مستقبال في إطار نظرية املؤرخ البريطاني توينبي للتحدي واالستجابة، والجزائر تملك تلك اإلمكانية، لكنها تحتاج إلى إرادة حقيقية لتحويل الجزائر إلى حالة اإلنتاج الفعلي لــأفــكــ­ار واالســـتـ­ــفـــادة مــن املـــــوا­رد الـبـشـريـ­ة التي تزخر بها.

ال يمكن إغفال الحديث ونحن نتحدث عن إشكاالت هجرة الكفاءات، اإلشارة إلى التعقيدات البيروقراط­ية التي تحول دون تجسيد مشاريع إنشاء مؤسسات تكون حاضنة لألفكار

ال يمكن ألي مجتمع أن تستقيم تركيبته وينعم بالحركية والحيوية، إذا لم يكن ثمة اهتمام بالطبقة المتوسطة التي ُتعرف برمانة المجتمع

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar