Al Araby Al Jadeed

صحافيون بال حدود

- فاطمة العيساوي

«انتهت مرحلة املخاطرة وبدأت محاولة النجاة» ... يقول الصحافي الفلسطيني، معتز عزايزة، في تغريدة يروي فيها أنهم مــحــاصــ­رون مــن الــدبــاب­ــات اإلسـرائـي­ـلـيـة، وال يعرف إن كــان سينجو. لـم يعد فعل اإلخبار من داخـل غـزة يعني شيئا وهو يواجه احتمال املوت. لكن الصحافي ابن غزة يتابع التغطية، أقله حتى كتابة هذه السطور. من هم هـؤالء الصحافيون؟ لم نسمع عنهم قبل تحولهم الــى الناقلني الوحيدين ملأساة أهلهم في غـزة ومقتل عـــــدد كــبــيــر مــنــهــم عـــلـــى يــــد آلـــــة الـــحـــر­ب اإلسرائيلي­ة. بحسب أرقـام لجنة حماية الصحافيني في نيويورك، قتل ما ال يقل عـــن 63 صـحـافـيـا وعـــامـــ­ال إعــالمــي­ــا منذ انـدالع النزاع في 7 أكتوبر، بينهم ثالثة لبنانيني. بحسب املصدر نفسه، تعرض 19 صحافيا لالعتقال، ال نعرف إن أطلق ســـراحـــ­هـــم أم ال يــــزالــ­ــون قـــيـــد االعـــتــ­ـقـــال. إلـــى هــــذا، تــضــاف عـمـلـيـات االعــــتـ­ـــداءات، التوقيفات واملضايقات اليومية، بما في ذلك الحمالت اإللكتروني­ة. تقول اللجنة إنـهـا تـحـقـق فــي تـقـاريـر غـيـر مــؤكــدة عن صحافيني آخـريـن، قد يكونون قتلوا أو اختفوا، وعن أضرار في مكاتب صحافية أو فـــي مـــنـــاز­ل صــحــافــ­يــني، إذا مـــا كـانـت هــذه املباني ال تـــزال مــوجــودة. وبحسب الفدرالية الـدولـيـة للصحافيني، قتل 68 صحافيا في الـنـزاع، غالبيتهم العظمى فـــي غـــــزة، بــمــعــد­ل أكـــثـــر مـــن قـتـيـل واحـــد يــومــيــ­ا، بــمــا يـــــوازي %72 مـــن كـــل قتلى الصحافة والطواقم اإلعالمية في العالم هذا العام. ولـــــكــ­ـــن، مـــــن هـــــم هــــــــؤ­الء الـــصـــح­ـــافـــيـ­ــون، ومــــــاذ­ا يـعـنــي فــعــل الــصــحــ­افــة بـالـنـسـب­ـة لـــهـــم فــــي حــــني يـــتـــوق­ـــعـــون مـــوتـــا قــريــبــ­ا؟ أعـــــاد هـــــؤالء تــعــريــ­ف الــعــمــ­ل الـصـحـافـ­ي فـــــي أمـــــاكـ­ــــن الـــــنــ­ـــزاعــــ­ـات، حـــيـــث يــتــســل­ــح تــقــلــي­ــديــا الــصــحــ­افــي املــــراس­ــــل بـــقـــدر من التدريب والحماية للحفاظ على حياته قـــدر املـسـتـطـ­اع. لـيـس فــي مـنـاهـج تعليم الصحافة أو الـتـدريـب عليها سيناريو ينقل فيه الصحافي خبر مقتل أفراد من عائلته أو زمالء له على الهواء مباشرة. ليس هنالك من سيناريو لصحافي قناة محلية، يرمي الخوذة التي يضعها على رأسـه، ليقول إنها ال تفيد، ألنه وزمـالءه يـــقـــتـ­ــلـــون كــــل يـــــــوم، وال حـــمـــاي­ـــة مـمـكـنـة لــهــم، بـعـدمـا يـبـلـغ عـلـى الـــهـــو­اء مـبـاشـرة مـقـتـل زمــيــل لـــه مـــع عـائـلـتـه فـــي القصف اإلســرائـ­ـيــلــي. ال تحمل املـنـاهـج الغربية لـلـعـمـل الــصــحــ­افــي تــعــريــ­فــا لـلـصـحـاف­ـي الناشط الـــذي يـقـرر البقاء مـع جماعته، رغم الخطر الداهم ليصبح صوت ناسه، فـــي حـــني يـــتـــعـ­ــرض هــــــؤال­ء، وهــــو مـنـهـم، لعنف غير مسبوق. ليس في التوقعات أن يـعـلـن صــحــافــ­ي خــبــر وفـــــاة زمـــيـــل له في تغريدة، وكـأن اإلبــالغ والنعي مهمة طبيعية من مهامه. تــقــتــض­ــي تــغــطــي­ــة الــــنـــ­ـزاعــــات بــتــعــر­يــفــهــا الـغـربـي مــن املــراســ­ل الـصـحـافـ­ي أن يكون مراقبا محايدا، ولو أن منطق الحياد في تـغـطـيـة نـــزاعـــ­ات دمـــويـــ­ة تـفـتـك بـاملـدنـي­ـني بــــات غــيــر مــمــكــن عــمــلــي­ــا، ومـــوضـــ­ع جــدل فـــــي اإلعــــــ­ــــالم الـــــغــ­ـــربـــــ­ي. لــــيــــ­س بــــاإلمـ­ـــكــــان ملراسلي غزة أن يتمتعوا برفاهية املراقبة الحيادية، باعتبارهم جزء ا من الحدث، أي املوت الحائم في أجوائهم. ال يمكن أيضا أن نتوقع منهم أن يغطوا أخـبـار اإلبــادة الــــتـــ­ـي يـــتـــعـ­ــرض لـــهـــا مــجــتــم­ــعــهــم بـــبـــرو­د وتجرد، كما لو أنهم شهود فحسب. ليس من املؤكد أن في إمكان مراسل صحافي، أيا كان، أن يراقب أحداث إبادة من دون أي تفاعل إنساني. معظم هؤالء الصحافيني املحليني لم يختاروا الصحافة، بل تدربوا فــــي مــــجــــ­االت مــخــتــل­ــفــة تـــمـــام­ـــا. الـتـصـقـت هـويـتـهـم بتعبير «فـيـكـسـر»، أي املساعد الــصــحــ­افــي املــحــلـ­ـي الــــذي يـــرشـــد املــراســ­ل األجــــنـ­ـــبــــي، ويـــشـــك­ـــل صـــلـــة الــــوصــ­ــل بـيـنـه وبــــني املــجــتـ­ـمــع املـــحـــ­لـــي، لــيــس فـــي مـجـال ترجمة اللغة فحسب، بل أيضا التعريف بالثقافة والتاريخ والخريطة السياسية

أعاد التساقط السريع والكثيف لمراسلي غزة طرح مسألة حمايتهم

وغيرها من أدوات فهم واقع الحدث. يقف الصحافي املحلي فـي موقع محير، إذ ال يعتبر صحافيا بالكامل (غالبا ما يتهم بالتحيز والتعبير عــن املــشــاع­ــر، كـمـا لو أن التجرد يفترض التخلي عن كل أشكال االنــتــم­ــاءات)، كما أنــه ليس مـجـرد شاهد على أحـــداث مـؤملـة، فهو الـصـوت الوحيد املؤثر في نقل هذه األحداث، حتى ال يقتل الضحايا في عتمة الصمت. أعـاد التساقط السريع والكثيف ملراسلي غــــزة طـــرح مـسـألـة حـمـايـتـه­ـم، واالعـــتـ­ــراف بهم صحافيني كاملني، ال تكتمل التغطية اإلخـــبــ­ـاريـــة مـــن دونـــهـــ­م. قـــد يــكــون مـراسـل «الـــجـــز­يـــرة»، وائـــل الـــدحـــ­دوح، الـــذي عــاود العمل بعد يوم من توليه نقل خبر مقتل عـــائـــل­ـــتـــه، املــــثــ­ــال عـــلـــى مــهــنــي­ــتــه ومــهــنــ­يــة زمالئه وقدرتهم العجيبة على تحمل ما ال يقدر على تحمله مراسل غير محلي يقوم بعمله من دون أن يحمل هم معرفة إذا ما كـانـت عائلته ال تـــزال على قيد الحياة أم أنـهـا بـاتـت تحت األنــقــا­ض. تـقـدم تجارب هــــؤالء درســــا عـــن عــالقــة املـــراسـ­ــل ببيئته ومـــعـــا­نـــي املــهــنـ­ـيــة فـــي الــعــمــ­ل الــصــحــ­افــي والــقــدر­ة على الصمود واجــتــرا­ح الحلول واالســــت­ــــقــــو­اء عـــلـــى الـــقـــه­ـــر والـــصـــ­عـــوبـــا­ت، من أجـل نقل الخبر. إنهم صـوت الذين ال صوت لهم.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar