Al Masry Al Youm

أزمة «واشنطن بوست».. الجوائز وحدها لا تكفى

هذه القدرة على جذب القراء الجدد هى تحديدا ما فشلت فيه سالى بازبى، فرغم ما حصدته الواشنطن بوست فى عهدها من جوائز، تراجع عدد المشتركين فى الجريدة.

- * د. خالد عز العرب يكتب:

أن يفوز صحفى بإحدى جوائز بوليتزر، فذاك أشبه بما يمثله الفوز بالأوسكار للعاملين فى مجال السينما. فما بالك لو أنك تترأس تحرير صحيفة فازت بأكثر من بوليتزر فى عام واحد؟.

سيكون ذلك با شك بمثابة شهادة ثقة غالية تدعوك لاطمئنان إلى كفاءة ما تقدمه من إنتاج صحفى، ولربما هنأت نفسك على قيادتك الحكيمة وقراراتك التحريرية الصائبة التى سمحت لصحفييك أن يتألقوا ويبدعوا، ولعلك تمنى نفسك بمكافأة مالية سخية من الناشر مع نهاية العام المالى.

لكن بعد شهر واحد من فوز الواشنطن بوست بثاث من جوائز بوليتزر هذا العام، وجدت رئيسة التحرير سالى بازبى نفسها مجبرة على ترك منصبها فجأة، فى واقعة شغلت المجتمع الصحفى الأمريكى طوال الأسبوع الماضى.

وسر الانشغال لا يكمن فقط فى كون الواشنطن بوست إحدى أهم الصحف الأمريكية – وأى تغيير فى قيادتها كان سيستدعى فى كل الأحوال اهتماما كبيرا – وإنما كذلك لأن الحدث ارتبط بثاثة أمور مثيرة لانتباه والتأمل..

الأمر الأول هو ما تردد عن أن رحيل بازبى جاء فى سياق خاف بينها وبين الناشر والعضو المنتدب للصحيفة ويل لويس، والذى تولى منصبه فى يناير ٢0٢٤. ومكمن الخاف، بحسب تقارير صحفية أميركية، هو أن لويس حاول الضغط على بازبى لمنع الجريدة من تغطية أخبار تتصل بعاقته بإحدى الفضائح الصحفية الشهيرة فى بريطانيا عندما كان على رأس صحيفة الديلى تيليجراف اللندنية قبل سنوات عديدة.

أصرت بازبى على نشر التقرير رغم اعتراض لويس، وبعد نحو أسبوعين تم الإعان عن رحيلها. الواقعة بطبيعة الحال أثارت المخاوف بشأن استقال القرار التحريرى وكذلك تضارب المصالح فى واحدة من أهم الصحف الأمريكية، وما لبث أن عزز هذه المخاوف تقرير آخر نشره صحفى من هيئة الإذاعة الوطنية NPR(،) كشف فيه أن لويس حاول قبل أشهر أن يغريه بعمل حوار حصرى معه مقابل ألا ينشر الرجل تقريرا عن عاقة لويس بالفضيحة البريطانية ذاتها.

أما الأمر الثانى الذى أثار اهتمام الدوائر الصحفية الأمريكية )والبريطاني­ة كذلك( فهو أن من سيحل محل بازبى بعد بضعة شهور هو نائب رئيس تحرير الديلى تيليجراف حاليا روبرت وينيت. ومبعث الاهتمام هنا هو أن الواشنطن بوست – تلك الجريدة التى تبلغ من العمر ١٤7 عاما وتعد أحد رموز الصحافة الأمريكية – ستكون بذلك تحت قيادة رجلين بريطانيين.

وقد صار تولى بريطانيين لقيادة مؤسسات إعامية أمريكية أمرا متكررا خال السنوات الأخيرة، فمارك تومبسون، المدير العام سابقا لBBC، تولى رئاسة نيويورك تايمز ومن بعدها شبكة CNN العام الماضى، كما تولت البريطانية إيما تاكر رئاسة تحرير صحيفة الوول ستريت جورنال قبل عامين، ويرأس تحرير بلومبرج نيوز جون ميكلويث الذى كان قبلها على رأس مجلة الإيكونومي­ست البريطانية.

ورغم أن الظاهرة تبدو جلية، فليس هناك إجماع على تفسير أسبابها... فالبعض يرى أنها تعود إلى ولع الصحافة البريطانية بالسبق )والفضائح( بشكل يفوق نظيرتها الأمريكية والتى صارت تحتاج إلى من لهم خبرة فى هذا اللون من الصحافة لاجتذاب جمهور القراء المتضائل، والبعض الآخر يرى أن الصحفيين البريطانيي­ن الذين اعتادوا العمل بموارد مالية أقل من نظرائهم الأميركيين سيكون لديهم استعداد أكبر لتلبية رغبات رؤسائهم فى تسريح بعض العاملين ومطالبة الباقين بإنتاجية أكبر، كما يذهب آخرون إلى أن رؤساء التحرير البريطانيو­ن مستعدون للقبول برواتب أقل من زمائهم الأمريكيين.

أما الأمر الثالث فقد يكون هو الأهم لأنه يعبر عن أزمة أكبر – ربما يجوز أن نطلق عليها أزمة وجودية – تعيشها الصحافة الأمريكية بشكل خاص والصحافة العالمية بشكل عام.

حتى العام ٢0٢0 كانت الأمور تبدو وكأنها تسير على خير ما يرام بالنسبة للواشنطن بوست، فالجريدة استفادت من الاستثمارا­ت التى ضخها فيها مالكها الملياردير جيف بيزوس صاحب شركة أمازون، ونجحت خال عهد دونالد ترامب وكذلك خال العام الأول لوباء كوفيد فى اجتذاب الكثير من القراء الجدد الباحثين عن صحافة جريئة وموثوقة. وربما كان الشعار الذى تبنته الواشنطن بوست فى ٢0١7: «تموت الديمقراطي­ة فى الظام» ‪Democracy Dies in‬

Darkness تعبيرا جيدا عن المزاج العام الذى سعت الجريدة بنجاح إلى الاستفادة منه.

وفى عام ٢0٢١ اختيرت سالى بازبى لرئاسة تحرير الواشنطن بوست كأول سيدة تتولى هذا المنصب، ومنذ اللحظات الأولى بدت عازمة على دعم المحتوى الخبرى الذى تقدمه الصحيفة لقرائها، فأضافت ٤١ منصبا تحريريا جديدا خال شهرين من توليها منصبها، وأولت اهتماما خاصا بأقسام الأخبار المحلية والدولية، كما دفعت باستثمارات كبيرة فى الصحافة البيئية.

انعكست هذه الخطوات بشكل إيجابى على المحتوى الصحفى، وفازت الواشنطن بوست تحت قيادة بازبى بست من جوائز بوليتزر منذ عام ٢0٢٢ عن تغطياتها لبعض أهم الملفات فى الأجندة الأمريكية مثل الجدل حول قوانين الإجهاض، وشكل الحياة بعد كوفيد، واستخدام الأسلحة الآلية فى جرائم القتل، بالإضافة إلى الحرب فى أوكرانيا. حتى الآن يبدو أننا إزاء قصة نجاح كامل. لكن الافت للتأمل هو أن هذا النجاح الصحفى ترافق مع فشل اقتصادى كبير، فقد انخفضت عائدات الإعانات الإلكتروني­ة فى الجريدة، وتكبدت الواشنطن بوست خسارة تقدر ب77 مليون دولار العام الماضى بعد أن كانت تحقق أرباحا فى الفترة السابقة، واضطرت الصحيفة إلى الاستغناء عن عشرات الصحفيين فى ٢0٢3 . فما سبب هذه الخسائر؟ ليست هناك إجابة حاسمة عن هذا السؤال، ولكن الشاهد هو أنها تأتى فى سياق أزمة اقتصادية كبرى تتعرض لها المؤسسات الإعامية بشكل عام مؤخرا، حتى إن معدل إغاق الصحف المحلية فى الولايات المتحدة وصل عام ٢0٢3 إلى خمس صحف كل أسبوعين )!!( وفقا لإحدى الدراسات، واضطرت بعض الصحف الكبرى إلى تسريح أعداد من الصحفيين – وصل فى حالة لوس انجليس تايمز إلى ٢0% من العاملين فى غرفة الأخبار – بعد أن تكبدت خسائر مالية كبيرة. فقد تراجعت عائدات الإعانات الإليكترون­ية لصالح عمالقة مواقع التواصل الاجتماعى مثل ميتا وجوجل، وانحسر حجم زيارات المستخدمين )الترافيك( لمواقع المؤسسات الصحفية بسبب تغييرات فى سياسات مواقع التواصل ومحركات البحث، وأخيرا طرح ظهور ChatGPT وأدوات الذكاء الاصطناعى الأخرى تحديات لم تتضح حدودها كاملة بعد.

ومع ذلك، فقد نجحت بعض المؤسسات الإعامية فى زيادة عدد قرائها رغم هذه التحديات. ف «النيويورك تايمز» على سبيل المثال أضافت 300.000 مشترك جديد خال الربع الأخير من عام ٢0٢3، وارتفعت أرباحها التشغيلية بنسبة 8.5%، فى نفس الوقت الذى حافظت فيه على جودة منتجها الصحفى )فازت هى الأخرى بثاث من جوائز بوليتزر هذا العام(.

هذه القدرة على جذب القراء الجدد هى تحديدا ما فشلت فيه سالى بازبى، فرغم ما حصدته الواشنطن بوست فى عهدها من جوائز، تراجع عدد المشتركين فى الجريدة إلى ٢.5 مليون مشترك من أصل 3 مايين عام ٢0٢0، وبينما كان موقعها يحظى ب١0١ مليون زيارة فى الشهر قبل أربع سنوات، انخفض هذا العدد إلى 50 مليونا قبل شهور.

هذه الأرقام دقت مسمارا فى نعش وجود بازبى فى الواشنطن بوست، وربما تفسر تلك الكلمات القاسية التى وجهها ويل لويس لصحفيى الجريدة غداة الإعان عن رحيل رئيسة التحرير: «إننا نخسر أموالا طائلة، فقد انخفض جمهوركم إلى النصف... الناس لا يقرأون ما تكتبون... لا يمكننى تزويق كامى بعد الآن .» والحل؟ تحدث لويس عن خطة لإعادة هيكلة الصحيفة وإضافة غرفة أخبار جديدة تركز على جذب الجمهور باستخدامات مبتكرة لمواقع التواصل والتركيز على صحافة الخدمات واستغال أدوات الذكاء الاصطناعى.

هى خطة مبهمة المعالم حتى الآن وتفتقر إلى الكثير من التفاصيل، ربما تثبت جدارتها خال السنوات المقبلة وربما تمنى بالفشل.. ولكنها فى كل الأحوال تمثل أحدث الحلقات فى مسلسل البحث القلق عن طوق نجاة للصحف يمكّنها من التكيف مع الواقع الإعامى الجديد.

* أستاذ مساعد ممارس فى قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt