Al Masry Al Youm

عودة الروح..

- تتمة مقال الأولى د. مصطفى حجازى

.. فما لبث أن تأكد أنه صراع إنسانى/ إسرائيلى.. فها هى الإنسانية وقيمها وجوهر وجدانها، هى من تصطدم بإسرائيل فكرة وتوجهًا وممارسة ووجودًا.

المستغرب أنه وبينما نحن نشهد تجبرًا ووحشية يهودية، منشؤها جنون الاستيطان والسطو على المقدرات والولغ فى الحقوق والثروات قبل الدماء.. والمستغرب ونحن يراد لنا ألا نَذكُر أو نُذَكِّر بحقوق تاريخية، أو حتى قواعد منطقية لقراءة التاريخ واستنباط الحقوق منه.. نجد أنه فى وثيقة «نشأة إسرائيل» التى صدرت فى 14 مايو 1948- والتى تلاها «ديفيد بن جوريون»، الرئيس التنفيذى للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية حينئذ، متزامنًا مع إنهاء الانتداب البريطانى على فلسطين- سيقت المبررات التاريخية والمنطقية والطبيعية لحق وطن اليهود فى النشأة واستيطان كامل أرض فلسطين، قبل أن تُساق المبررات القانونية كوعد بلفور وغيره.

وكأنه فى شأن تسويغ الاستعمار الاستيطانى اليهودى لأرض فلسطين تُستَدعى الروايات التاريخية الباطلة أو تُنتَحَل.. أما فى شأن تأصيل الحقوق المتجذرة للفلسطينيي­ن وللعرب فى أرضهم فتُستَهجَن كل حقائق التاريخ ويُتنكر لها، وتُضحَّل وتُهجَر سردياته الموثقة بالجغرافيا والأنثروبو­لوجيا.

ولمنكرى الحقوق التاريخية باسم البراجماتي­ة السياسية، ولمن يريدون أن يرتكنوا إلى التعاطى الإجرائى والقانونى وفقط، وكأننا بصدد جريمة سرقة منزل لا اغتصاب أرض أمة.. فلا بأس.

ولكن علينا أن نكون جادين ولا نهزل، فما ينتهى إليه السياق القانونى والإجرائى يصير ملزمًا لنا جميعًا وأولنا إسرائيل، وكفى الله العرب شر الاتهام بالتخاذل والتخلف وتعاطى الوهم.. فالعرب قد تولوا طواعية وكفوا أنفسهم شرف القتال..!

فعودة إلى السياق القانونى لنشأة دولة إسرائيل نرى أنه قد تقدمت إسرائيل بطلب الحصول على عضوية فى الأمم المتحدة بتاريخ 15 مايو 1948، أى بعد يوم واحد من وثيقة إعلان قيامها ولكن الطلب لم يُقبل من جانب مجلس الأمن.

ثم ما لبث أن رفض مجلس الأمن طلب إسرائيل الثانى فى 1٧ ديسمبر 1948 بأغلبية 5 أصوات مقابل صوت واحد، مع امتناع 5 أعضاء عن التصويت.

وبعد هذا الفشل الثانى، عادت وقدمت إسرائيل طلبًا آخر فى ربيع 1949، والذى أصدرت الجمعية العمومية على إثره قرارها رقم 2٧3 فى 11 مايو 1949 بقبول «مشروط» لعضوية إسرائيل فى الأمم المتحدة.

بأنه بناءً على إعلان إسرائيل أنها «تقبل بدون تحفظ الالتزامات الواردة فى ميثاق الأمم المتحدة وتتعهد بتطبيقها من اليوم الذى تصبح فيه عضوًا فى الأمم المتحدة» وبأنها تتعهد كشرط قبول أول وثانٍ، بتطبيق قرارى الجمعية العامة الصادرين فى 29 نوفمبر 194٧ )قرار تقسيم فلسطين رقم 181 لسنة 194٧(، و11 ديسمبر 1948 )قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيي­ن(، تقبل عضويتها.

وهذان هما الشرطان اللذان نقضتهما إسرائيل عمليًا حتى الآن، واللذان فى ضوء نقضهما يعد الاعتراف بإسرائيل فى الأمم المتحدة غير معتبر قانونيًا.. أو منعدم قانونيًا فى رأى.

كان ذلك بعضًا من سرد قانونى لمن لم يزالوا يصرون على اعتبار أن )واقعية( كل حدث وحبذا )قانونيته( هما قرينة حقيقته، وما خلاهما ظنون وأوهام وضلالات.. فلا حق ولا تاريخ ولا عُرف ولا ثقافة لها حجية إثبات الحقيقة، ولا هى قرائن قانونية تلك الحقيقة.

فها هى إسرائيلهم بالحجية القانونية قد تكون محض سراب لا يُعتد بأثره.

وعلى الرغم من ذلك فالسردية التى يُراد لها أن تصير ملزمة هى: إن كانت إسرائيل أمرًا واقعًا حدث منذ العام 194٧.. فذاك واقع يلزم أن يَجُبَّ ما سبقه من حقائق تاريخ شعب سكن فلسطين وبنى حضارتها وثقافتها ووجدانها.

وإن كانت حدود الرابع من حزيران يونيو هى حدود الهزيمة العربية الكبرى فى عام 19٦٧، والتى على إثرها تآكل ما تبقى من واقع قرار التقسيم الآثم، القرار 181 لعام ،194٧ فلتكن حدود الهزيمة هى السند القانونى الملزم لنا كعرب وغير عرب فى كل تسوياتنا المقبلة.. ولا عزاء للعدالة أو الحقوق التاريخية.

كما أنه لا داعى لضوضاء العدالة والحقوق ونحن بصدد إنشاء مبانٍ شاهقة ومراكز تجارية عملاقة ومناطق سياحية جاذبة لتحتوى أبناء فلسطين والمنطقة كأيدٍ عاملة طيعة مستكينة تهنأ بقوت اليوم تحت إمرة المدير الإسرائيلى­جنسية أو وجدانًا- بأموال ومقدرات هؤلاء العرب الطيعين.

المستغرب أنه يُراد لتلك السردية البائسة أن تكون هى الملزمة للوجدان والمنطق العربى.. ونحن على مسافة ثلاثين عامًا أو أقل من انهيار نموذج بشرى منحط للفصل العنصرى والاستعمار الاستيطانى فى جنوب إفريقيا.. ما لبث أن تهاوى ليصحح الخطأ التاريخى بقوة من التسامح والتسامى والعقلانية تجسدت فى «نيلسون مانديلا»، الزعيم التاريخى الذى كان جوهر رسالته هو ثباته على مبدأ يقول: «إن تقنين الباطل لا يحيله حقًا.. وإن شيوع الباطل لا يحيله حقًا.. وإن قوة الباطل لا تحيله حقًا».. كل ما مثله مانديلا.. هو اقتفاء تعريف قاطع لحق أمته فى أرضها، ثم ثبات على هذا الحق أمام باطل الاستيطان الذى تجذر قرابة الثلاثة قرون ‪1993(، )1٦52-‬ والفصل العنصرى الذى توحش لعقود ‪1993.) )1948-‬

عرف مانديلا، وهو القانونى بالدراسة والممارسة، أن الاستعمار والفصل العنصرى فى بلاده مهما تجذر وصار قانونيًا بالأمر الواقع وطول الأمد، فلم يكن أبدًا مشروعًا.. «وإن كان كل أمر مشروع من الوارد أن يصبح مقننًا.. فليس كل أمر مقنن مشروعًا».

وللمغرمين بالتماهى فى النصوص القانونية وتسليم قياد العقل، والضمير قبله، لادعاءات قدسية النص القانونى، وتحديدًا فى قضية الوجدان والضمير الإنسانى النازف فى فلسطين..

نحيلهم إلى إحدى علامات الفكر الإنسانى الذى أحدث تحولات كبرى فى تاريخنا الحديث.. وهو كتاب «روح القوانين» للفيلسوف والمفكر الفرنسى الأشهر بارون دو «مونتسكيو».

كتب كتابه الأشهر «روح القوانين»، عام ،1٧48 ليضع الملامح الأولى للنظم السياسية وللمبادئ التى تقيمها وتضمن لها البقاء.. كما أنه وضع الملامح الأولى لمعنى الحرية السياسية والشخصية.. والأهم لمعنى ودور و«روح القوانين» فى حفظ سلام المجتمع وقدرة الدولة واستقرارها.

وكان هو من قطع فى شأن المتشدقين بالقدسية الإجرائية للفعل القانونى دونما إعمال عقل أو مراقبة ضمير.. حين قال: «إن الأمر لا يكون عادلًا لمجرد كونه قانونًا.. ولكن يلزم أن يصبح الأمر قانونًا فقط إذا كان عادلًا».

أى أنه ليس كل نص قانون هو بذاته منطقى وعادل.. حتى وإن كان منبتًا عن العقل وخاصم الضمير.. وتلك هى الروح التى أرادها مونتسكيو فى كتابه، والتى جاء تحرر جنوب إفريقيا شاهدًا عليها مهما طال عهد الاستعمار فيها، وسيأتى تحرر فلسطين شاهدًا آخر عليها.

كما قال: «إن أسوأ أنواع الديكتاتور­يات هى تلك التى تتدثر برداء العدالة وتتحدث بلسان القانون».. وكأنه بيننا ويسمع ذلك اللغو عن حق إسرائيل فى البقاء والدفاع عن النفس فى إطار قانونية نشأتها وحق تسلحها.

أخيرًا، للمتشدقين بالحجية القانونيةا­لمخاصمة للضمير والتاريخ وأصل العدالة وروح القوانين- اللاهثين الآن وراء حل الدولتين باسم البراجماتي­ة السياسية، وضرورة بدء دورة «رخاء» كالتى كان الوعد بها بعد كامب ديفيد وأوسلو الأولى والثانية.. أرجو أن يتأملوا قليلًا حال طفل فلسطينى لم يَرَ شبهة تعاطف مع جوعه وعريه وقتله وحرقه هو وكل ما يسميه وطنًا وبيتًا وأسرة وحمى.. وأى وجدان يحمل..؟!

وأن يبرروا لهذا الطفل أنه- وباسم القانونكائ­ن دون البشر لا حق له فى أرضه ولا تاريخه ولا مستقبله.. وأن يشرحوا لهذا الطفل أن مثيله فى العمر الطفل اليهودى ابن الأسرة التى اغتصبت أرضه وتاريخه أحق منه بالتعاطف والتباكى على ألمه، بينما حكومات العالم إلا من رحم ربى وكأنها ترتوى بمشاهد عذابه هو وكل أطفال فلسطين.. ثم أن يقنعوه بأن من أعانوا على تآكل أرضه دونمًا بدونم وشبرًا بشبر.. منشغلون جدًا بأن يقيموا له سجنًا مفتوحًا جديدًا باسم دولة على شذرات من أرضه..!.

يا سادة.. بمنتهى الواقعية والعقلانية والبراجمات­ية نقول إن.. فلسطين الأرض ستعود.. فلسطين الوطن ستعود.. وفلسطين الحق ستعود.. بلا حل دولتين ولا عقد دولتين!.

لأن ما يسبق عودة الأرض.. وعودة الوطن.. وعودة الحق.. هو «عودة الروح». وأظنها قد عادت.. فَكِّرُوا تَصِحُّوا..

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt