Al Masry Al Youm

حاجة مجتمعنا الآن إلى مبادرة أخلاقية

إن الشعب المصرى فى حاجة إلى مبادرة أخلاقية تأتى فى ركاب ثورة فكرية آن الأوان لإطلاقها بشمول ورسوخ، ودون تردد.

- د. عمار على حسن يكتب:

بتنا فى حاجة ماسّة إلى ردّ اعتبار الأخاق والقيم إلى مجتمعنا، عبر تسليط الضوء على الجوانب الإيجابية فى أخاق المصريين، تحت شعار «الخير موجود بداخل كل شخص، لكنه بحاجة إلى مَن يكتشفه»، وهو أمر قد يتم عبر مبادرة تركز على ترسيخ بعض القيم مثل التعاون والشعور بالآخر وفهمه وقبوله، والمحبة فى أسمى معانيها، والإنصاف فى أجلى قيمه وإجراءاته، والعمل فى إتقان وإخاص، والإيثار الذى يجلب لنا فضيلة «إنكار الذات» شبه الغائبة عن تصرفاتنا، وكذلك الاتزان النفسى الذى يمنح الفرد سوية فى التفكير وإبداء المشاعر.

إن مثل هذه المبادرة تمس وترًا مهمًّا فى الحياة المصرية الراهنة، حيث تعانى الرؤى الدينية المطروحة من فقر شديد فى الوعى الأخاقى، رغم أن الانشغال به والسؤال عنه قديم فى الثقافة العربية الإسامية، وقُدمت فيه إسهامات بارزة، تراكمت عليها إسهامات مفكرين فى الزمن الحديث

والمعاصر، أدرك أصحابها أن «الدين المعاملة»، وأن قيمتى «الرحمة» فى الإسام و«المحبة» فى المسيحية تؤسسان لأخاق رفيعة، ولفهم الناس مقاصد الدين وأهدافه وغاياته العليا.

فما جرى من غلبة الفقه على الفلسفة، والشريعة على الأخاق، والتدين على الدين، لم يسعف فى قيام علم أخاق إسامى يتسم بالانضباط الصارم، والاتساق الذاتى، ويمتلك القدرة على نشره بسهولة شديدة. فى الوقت نفسه فإن الكنيسة لم تعط المسألة الخلقية العامة ما تستحقه من اهتمام.

فغياب الجانب الأخاقى، المرتبط إلى حد عميق وبعيد بالروحانيا­ت ويقظة الضمير، حوَّل العبادات إلى مجموعة من الطقوس، وجعل المعامات تقوم على النفعية سواء بتحصيل مكاسب دنيوية عاجلة أو السعى إلى الفوز بمكاسب أخروية آجلة عبر جمع الحسنات فى عملية حسابية جافة، يظن صاحبها أن بوسعه أن يربح إن تعامل مع عدل الله وليس رحمته وفضله، تطبيقًا لفقه وتفاسير تتحدث

له فى هذا الاتجاه الذى يميل إلى ظاهر النصوص.

لقد رأينا كيف انحرف الخطاب الدينى إلى طلب السلطة السياسية عند الجماعات التى حولت الإسام إلى أيديولوجيا، وإلى انشغال بالسياسة لدى بعض من رجال الكنيسة، وكان هذا على حساب الوقت والجهد والمال الذى يجب أن يخصص له، فسمعنا حديثًا من قِبَل هذه الأطراف يملأ المجال العام، بينما ينحسر الخطاب الأخاقى، رغم الحاجة الشديدة إليه لمجتمع يعانى كل عيوب الندرة وأمراضها العامة، التى انعكست فى الأقوال والأفعال.

إن الظروف الاقتصادية الصعبة تدفع كثيرًا من الناس إلى حالة من التوحش، ينسون معها الكثير من تعاليم الأديان، ومن التقاليد والأعراف، ومما يُوجِبه «الحس العام» السليم، الذى يحمى المجتمع من الغرق فى صراع مفتوح على الموارد والمكانة.

يكفى لأى منّا أن يرى كيف يتصرف الناس، ويسمع ما يتلفظون به فى الشوارع والأسواق

عندما دعانى د. عمرو عبدالحميد إلى الكتابة لموقع مركز الدراسات العربية الأوراسية، شعرت بحرج شديد؛ فهو من الشخصيات التى فيها من الأدب والتهذيب والذوق ما لا يمكن أن ترد له طلبًا بسببه. وإذا أضيف إلى ذلك صداقة أخذت فى التكوين خلل العامين الأخيرين بحكم التفاعل فى أكثر من ساحة تليفزيونية، مضافًا إليها سفرنا معًا إلى اليمن، زاد الحرجُ حرجًا. ولكن كان هناك سبب لا تدخل فيه الاعتبارات الشخصية إلى القضية الجادة للكتابة فى موضوع مهم بات محوريًّا فى العلقات الدولية، بحكم أن كل العالمين العربى والأوراسى بات محورًا مهمًّا فى تقرير مصير العالم الذى نعرفه، حيث الحرب الأوراسية بين روسيا وأوكرانيا مشتعلة وملحة على المصير الأوروبى والأطلنطى. وفى العالم العربى فإن حرب غزة الخامسة لم تعد من نوعية تلك الحروب القصيرة التى ما إن تشتعل حتى يبدأ انطفاؤها، وإنما استمرت إلى أكثر من ستة أشهر )وحدث ذلك بينما الحرب الأوكرانية تتعدى العامين(، وخلقت دوائر كبيرة من العنف امتدت من غزة إلى الحدود الإسرائيلي­ة مع سوريا ولبنان، وتأثيراتها فى الأردن والعراق، وأخيرًا اليمن الذى فتح الحرب على البحر الأحمر والمحيط الهندى، وظهرت- سريعًا- تأثيراتها فى الملحة والتجارة الدولية، وتجلت- بقوة- فى الاقتصاد العالمى وتأثيراته فى العولمة من ناحية، ونوبات التضخم، واختلل سلسل التوريد العالمية من ناحية أخرى. وكان فى الموضوع أمر شخصى؛ فالعالم الأوراسى جوهره وقلبه النابض هو جمهورية روسيا الاتحادية، وهذه لم يتيسر لى معرفتها جيدًا منذ زيارتى موسكو لأول وآخر مرة فى الأسبوع الأخير من أكتوبر 1991، أى قبل أسابيع من انهيار الاتحاد السوفيتى. والآن أصبح العالم مختلفًا، وروسيا نفسها أصبحت مختلفة، مرة عندما عاشت عشر سنوات كاملة خارج منظومة «الدول العظمى»، وعضوًا متأخرًا فى مجموعة الدول الثمانى؛ ومرة أخرى عندما أصبحت تحت قيادة الرئيس بوتين، تمثل دولة «التحدى»، و«المراجعة» فى النظام الدولى الذى يتغير بسرعة حاليًا.

لم يكن كل ما سبق يعنى «الجهل» بروسيا التاريخية والمعاصرة أيضًا. ومثل كل أبناء جيلى، كانت موسكو هى المكان الذى ننظر إليه فى كل ما تعلق بالصراع العربى الإسرائيلى، وكان الأدب الروسى، والموسيقى الكلسيكية الروسية، جزءًا مهمًّا من ثقافتنا العامة. وبحكم الوجود داخل المعسكر اليسارى المصرى خلل الستينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضى، خُلِقَت

معرفة غير قليلة بالتاريخ الروسى منذ نشوب ثورة أكتوبر 1917 حتى الربع الأخير من القرن العشرين. وخلل دراستى العليا فى العلوم السياسية داخل مصر وخارجها فى الولايات المتحدة، بات الاتحاد السوفيتى، ثم روسيا، جزءًا مهمًّا من دراستى، خاصة فى رسالة الدكتوراه «الولايات المتحدة وأزمة أكتوبر 1973 فى الشرق الأوسط»، حيث كان لموسكو دور مهم وتاريخى.

كل ذلك رجّح فى النهاية الاستجابة لرغبة الصديق عمرو عبد الحميد لكى أكتببانتظا­م- لهذا الموقع المهم الذى يطرح سؤالًا مهمًّا عن العلقة بين العالمين الأوراسى والعربى

فى عالم يتغير بسرعة مخيفة، فيكون السؤال هو: كيف يتغير العالم؟ وعلى الأقل كيف نعرف أن العالم يتغير؟ وما الشواهد والدلائل على ذلك؟ وهل هو فى الشكل، أم فى المضمون، أم فى كليهما معًا؟ الشائع هو أن أقاليم العالم وظروفها التاريخية والجيوسياس­ية ليست متطابقة، أو حتى متشابهة؛ ولكن تظل القاعدة الأساسية لها هى تحقيق توازن القوى، بكل ما يكفله ذلك من أبعاد القوى الخشنة، والناعمة، والذكية. العالم الآن بات- وفق وجهة نظر شائعةثنائى القطبية بين الولايات المتحدة والصين، استنادًا إلى أن الناتج المحلى الإجمالى للبلدين

يتقارب يومًا بعد يوم. وفى الوقت الراهن، فإنه بالحساب، استنادًا إلى القوة الشرائية للدولار، فإن الناتج الصينى يتفوق على ذلك الأمريكى، وأخذًا بمعدلات النمو الراهنة، فإن الصين فى طريقها إلى مزيد من التفوق، خاصة بعد الريادة فى مجالات الثورة الصناعية والتكنولوج­ية الرابعة. النمط الذى يدور فى تفاعلت القطبين يشير إلى تنافسهما، والولوج من المنافسة إلى الحرب التجارية والاستراتي­جية فى بحر الصين الجنوبى، والسياسية بالعقوبات الأمريكية على حلفاء للصين، مثل كوريا الشمالية، وإيران، التى تضغط بها واشنطن على دول العالم للختيار ما

بينها وبين الصين.

ولكن دورية «الشؤون الخارجية» الأمريكية رأت الثنائية القطبية تدور فى الإطار التاريخى المعاصر للعلقات والتفاعلت الأمريكية الروسية، وجاء ذلك فى العدد المجمع لمقالاتها، الصادر فى إبريل )نيسان( 2018، بعنوان «الحرب الباردة الجديدة.. روسيا وأمريكا من قبل والآن». مجموعة الدراسات المنشورة تبدأ من بداية الحرب الباردة القديمة، التى جرى إشهارها فكريًّا من خلل مقال »X« الذى سطره السفير الأمريكى جورج كينان، فى عدد يوليو )تموز( 1947 بعنوان «مصادر السلوك السوفيتى»، والذى أعلن فيه انتهاء التحالف الأمريكى السوفيتى فى أثناء الحرب العالمية الثانية، ودعا- كبديل- إلى اتباع استراتيجية تقوم على احتواء الاتحاد السوفيتى. المقالات المختلفة المنشورة تعكس التطورات وفترات الصعود، واحتدام الحرب الباردة، أو تخفيف التوتر، عندما نشر هنرى كيسنجر مقاله فى يوليو )تموز( 1959 بعنوان «البحث عن الاستقرار»، ونشر نيكيتا خروتشوف فى عدد أكتوبر )تشرين الأول( من الدورية نفسها بعنوان «عن التعايش السلمى». ولكن لحظات التعايش والوفاق كانت الاستثناء على مسيرة طويلة من الحرب الباردة، استمرت حتى انهار الاتحاد السوفيتى فى مطلع تسعينيات القرن الماضى. وعلى مدى عقد ونصف العقد تقريبًا، وفى ظل انفراد الولايات المتحدة فى العالم، فإن المقالات المنشورة ركزت على إنقاذ روسيا، والتعاون معها فى إطار مجموعة الثمانى. وفى عام 2002 ظهر العنوان «تجديد روسيا»، ولكن شهر العسل هذا لم يستمر طويلً؛ حيث تواصلت المقالات والدراسات التى تكشف ازدياد التوتر بين واشنطن وموسكو. وفى عام 2006 كان العنوان هو «روسيا تترك الغرب» وفى 2007: «خسارة روسيا وتكاليف استئناف المواجهة»، وفى 2008: «لماذا استقرار السلطوية )فلديمير بوتين( خرافة؟»، وفى 2010: «مأزق التحديث فى روسيا»، وفى 2011: «الدب المحتضر»، و«كارثة روسيا السكانية»، وفى :2014 «إدارة الحرب الباردة الجديدة»، وفى 2016: «الجغرافيا السياسية الدائمة لروسيا»، و«البحث عن مكانة روسيا المشروعة»، و«إحياء القوة العسكرية الروسية» (هذا بعد ضم روسيا للقرم، واحتكاكها بأوكرانيا، وفرض العقوبات الأمريكية عليها(. وفى عام 2018 نشرت مجلة «الشؤون الخارجية»، فى عدد يناير )كانون الثانى:) «احتواء روسيا مرة أخرى»، وفى عدد مارس )آذار:) «هل بدأت حرب باردة جديدة؟».

هذا ملخص سريع لما جرى حسبما رصدته دورية أمريكية، ولكن ذلك يدعو إلى نظرة أخرى تكشف كيف يتغير النظام الدولى! المقالات القادمة سوف تحتوى على اجتهاد لا بد منه.

* مفكر سياسى وباحث وأستاذ أكاديمى

 ?? ??
 ?? ?? الحرب الروسية الأوكرانية
الحرب الروسية الأوكرانية
 ?? ?? * د. عبدالمنعم سعيد يكتب: الآن أصبح العالم مختلفًا، وروسيا نفسها أصبحت مختلفة، مرة عندما عاشت عشر سنوات كاملة خارج منظومة «الدول العظمى »، وعضوًا متأخرًا فى مجموعة الدول الثمانى؛ ومرة أخرى عندما أصبحت تحت قيادة الرئيس بوتين.
* د. عبدالمنعم سعيد يكتب: الآن أصبح العالم مختلفًا، وروسيا نفسها أصبحت مختلفة، مرة عندما عاشت عشر سنوات كاملة خارج منظومة «الدول العظمى »، وعضوًا متأخرًا فى مجموعة الدول الثمانى؛ ومرة أخرى عندما أصبحت تحت قيادة الرئيس بوتين.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt