Al Masry Al Youm

هذا غرسك.. قد أينعت ثماره هذا أبى.. فليلزم أحدكم نعلى أبيه

-

«منذ رحلتَ وروحى تدورُ مُعذَّبة فى أفلاك الندم على كل لحظة لم ألزم فيها قدميك»

وتظن أنك كبرتَ، وصِرتَ رجلًا، وامتلكتَ مفاتيح حياتك بين أصابعك.. حتى يموت أبوك، فتكتشف أنك كنتَ طفلًا صغيرًا يركض فى الحياة محمولًا على كتفى أبيه.

لا أعلم علاقة إنسانية أشد تعقيدًا وتحيرًا من علاقة الابن بأبيه؛ خاصةً الابن الذكر. ينجو فقط من هذا الفخ مَن وصل إلى سن النُّضج ومازال أبوه على قيد الحياة.

الأب: تلك الشخصية الصارمة، المرتبطة شرطيًّا بالعقاب والأوامر والنواهى، والمنع والحرمان. هكذا هى صورة الأب، وهكذا كانت صورة أبى فى عينى معظم سنوات العمر.

أبى كان أستاذًا جامعيًّا تربويًّا، نشأته فى مجتمع عشائرى صارم فى التقيد بالأصول والقيم العشائرية، فكان منطقيًّا أن تُنتج هذه التوليفة أبًا حازمًا منظمًا دقيقًا، ينظر إلى البيت والأسرة كمنظومة متكاملة الأركان لا تهاون فى أى ركنٍ منها. كان حُبه لنا فعلًا وعملًا وجهدًا.

كانت رغبة أبى أن أنهج نهجه، وأن يكون السلك الجامعى هو طريقى المستقبلى، كانت معارضتى الشديدة أن تكون هذه حياتى سببًا رئيسًا فى تأزم علاقتى به فى مرحلة شبابى، وبالفعل اخترتُ العمل الحُر، منتقلًا من مجالٍ إلى مجال، حتى مرَّت السنوات لأكتشف أنها لم تكن رغبته بقدر ما كانت رؤيته، فطفلٌ نشأ وقضى مرحلة تكون شخصيته وأفكاره واهتماماته فى بيت توارت حيطانه خلف مكتبات متشابكة من الكُتب فى كل توجه فكرى وأدبى وفنى وأيديولوجى وعلمى ومعلوماتى، من البديهى أن تظل جذوره وعقله وروحه وتطلعاته معلقة بالكُتب، فكان اتجاهى إلى مجال النشر لأعود مجددًا- كما نشأتى- مُحاطًا بجدران من الكُتب، ولتكون أول صلاة فى مكتبى لأبى.

حتى عندما هداه الله إلى بناء مسجد فى مسقط رأسه )العريش( كان من أكثر ما اهتم به من تفاصيل تأسيسه وجود مكتبة عامة متنوعة متاحة للمصلين.

منذ صغرى كان يُشار إلىَّ تقديرًا واحترامًا )ابن الدكتور فيصل( مع تجاهل اسمى، ومع خطواتى الأولى على طريق الكتابة، ثم النشر فيما بعد، قررت أن أقرن اسمى بلقب العائلة، ليكون )إسلام شمس الدين(، لكنه لم يغضب أو يحزن، ربما لأنه بسبب أصوله العشائرية يفخر دومًا بانتمائه إلى عائلته، ومن ناحية أخرى لأنه بدأ يشعر ببعض الرضا عن توجهاتى، التى عادت إلى التوافق مع توجهاته.

عدد مؤلفات الدكتور فيصل العلمية والتربوية تجاوزت ال3٠ كتابًا، بالإضافة إلى الإشراف ومناقشة مئات الرسائل الجامعية، فى طفولتى كان يصحبنى إلى مطبعة الحاج يحيى، ناشر كُتبه، قبل تطور آلات الطباعة، وقبل حتى انتشار الكمبيوتر، كنت أنام من التعب وهو جالس ساعات طوالًا يتابع الآلة الكاتبة، ثم يتابع تجميع الحروف فى المطبعة، ثم مراحل الطباعة حتى تجليد الكتاب.

وكما شاركته رحلة كتبه طفلًا، شاركته ناشرًا فى إصدار كتابين، لم يتغير أبى، كان كما هو، يطلب منى أن أجلس بجواره ساعات ممتدة يوميًّا لنراجع كتابه حرفًا حرفًا، ويراجعنى فى كل مرحلة.

وكما شاركته رحلته اليومية بالسيارة إلى الجامعة طفلًا فى إجازة الصيف، شاركته الرحلة نفسها فى أعوامه الأخيرة مرافقًا وسائقًا وسميرًا، كانت الأوقات الأكثر متعة وراحةً لى عندما نستمع إلى إذاعة الأغانى فى راديو السيارة، نستدعى ذكريات الأغانى القديمة ومطربيها ومؤلفيها وملحنيها، ونتحدث فى كل شىء ولا شىء، أسمع منه نفس الحكايات القديمة، التى لا يملّ من ترديدها علىَّ، ولا أملُّ أنا من سماعها، أشكو إليه نفس الهموم والمشكلات والمتاعب، التى لا أملُّ من رميها فوق كتفه، ولا يملُّ هو من حملها عنى، نتشارك نفس التفاصيل التى بلا هدفٍ؛ سوى أنى آنس به، وأنه يأنس لى.

كان استقبال تلامذته )الأساتذة والأساتذة المساعدين( له على باب الكلية يؤكد قناعة قديمة ترسخت لدينا نحن أولاده؛ بأن محبته لطلابه لا تقل عن محبته لنا، وأن مكانته وقدره لديهم لا تقل عن قدره عندنا.

وفاة أبى كانت بعد أسابيع من عيد الفطر، وظلَّ عالقًا فى ذاكرتى وروحى مشهد تقبيلى يده، وهى تمنحنى العيدية، التى كنتُ أتلقاها منه بلهفة طفلٍ صغير؛ رغم أننى قاربتُ على الخمسين، ولا أدرى كيف سأستقبل العيد القادم دون عيديته.

لعلها الآن اللحظة الأصعب منذ توقيعى بقلمى على )تصريح الدفن(، الذى يحمل اسم فيصل هاشم شمس الدين، أقف الآن أمام صورته المعلقة على جدار مكتبى محاولًا مواجهتى بالحقيقة، وأنا موقنٌ أننى سأنكرها، والبرواز سينكرها، والفضاء من حولى سينكرها، ومطلوبٌ منى أن أتذكر بعض ما أصارع لإخفائه فى خبايا الذاكرة، منذ سبعة شهور، منها خمسة كنت أجبن وأضعف من أن أطرق باب البيت الذى تربيتُ فيه وأنا أعرف أنه لن يكون موجودًا.

مولاى وسيدى ومُعلمى، وأبى: الأستاذ الدكتور/ فيصل هاشم شمس الدين

منذ رحلتَ وروحى تدورُ مُعذَّبة فى أفلاك الندم على كل لحظة لم ألزم فيها قدميك، فلعلك تشفع لى عند ربك ليرحمها ويسبغ عليها من لدنه بعض السكينة.

إسلام شمس الدين

 ?? ??
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Egypt